التاريخ ذاكرة الأمة الحافظة الواعية
التاريخ إنَّما هو في الواقع ذاكرة الأمة الحافظة الواعية، والأمة التي تهمل تاريخها أشبه بالفرد يفقد ذاكرته، ويعيش ليومه وحده، بلا ماض يعرفه ويبني عليه، إنه إنسان مبتلى مقطوع الجذور، يرثى لحاله، وهو أحوج ما يكون إلى العلاج، فكيف ترضى جماعة أن تجعل هذا الوضع المرضيّ الشاذ أساساً لحياتها؟.
والتاريخ هو المرآة التي تتجلى فيها سنن الله تعالى في الكون عامة، وفي الاجتماع البشري خاصة، ولهذا عني القرآن عناية بالغة بلفت الأنظار، وتنبيه العقول إلى هذه السنن للانتفاع بها، وتلقي الدروس العملية منها.
اقرأ معي هذه الآيات الكريمة: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}، وهذه السنن تتميز بالثبات، فلا تتبدل ولا تتحول، كما قال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُورًا. اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَل يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً}.
كما تتميز هذه السنن بالعموم، فهي تنطبق على الناس جميعاً، بغض النظر عن أديانهم، وجنسياتهم، فأي مجتمع أخطأ أو انحرف لقي جزاء خطئه أو انحرافه، ولو كان هو مجتمع الصحابة أو مجتمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسبنا في هذا ما دفعه الصحابة ثمناً لخطئهم في غزوة أُحُد، وهو ما سجله القرآن عليهم بوضوح في قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}، وبين في آية أخرى هذا الذي عند أنفسهم بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}.
وأمَّا القول بأن التاريخ وقائع غير ثابتة الصحة، فقد يصدق هذا على بعض الوقائع الجزئية، أمَّا الاتجاهات العامة، والأحداث الأساسية معروفة وثابتة بيقين بأكثر من دليل، على أن تلك الوقائع التي يحيط بها بعض الريب لا يصعب على أهل الذكر تمحيصها، وتمييز الخطأ من الصواب فيها، والثابت من المختلق أو المبالغ فيه منها.
على أننا لا نعني بالتاريخ تاريخ المسلمين فحسب، بل تاريخ البشرية حيثما عرف، وتاريخ الأمم في أي أرض كانت، وفي أي عصر كانت، وعلى أي ملة كانت، مسلمة أو غير مسلمة، فالعبرة لا تؤخذ من سير المؤمنين وحدهم، بل تؤخذ من المؤمن والكافر، ومن البر والفاجر؛ لأن الفريقين تجري عليهما سنن الله بالتساوي، ولا تحابي هذه السنن أحداً شأنها شأن السنن والقوانين الطبيعية، فقوانين الحرارة والبرودة، والغليان والانصهار، والضغط والانفجار، قوانين كونية عامة، تتعامل مع الموحدين تعاملها مع الوثنيين.
بل نحن لا نفهم القرآن كما ينبغي، ولا نعرف فضل الإسلام تماماً، ما لم نعرف ماذا كانت عليه الجاهليَّة من ضلال، أشار إليه القرآن بمثل قوله: {وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، وقوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُم مِّنْهَا}.
وهذا سر ما ورد عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حين قال: إنَّما تنقض عرى الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهليَّة.
وإذا كان الاعتراف بالحق فضيلة، فإني أعترف أن كثيراً من المشتغلين بأمر الإسلام والدعوة إليه، لم يقرأوا التاريخ، وإن لم يحرّموا دراسته على أنفسهم وأتباعهم كما حرمها بعض الغلاة، أعني: لم يقرأوه ببصيرة نفاذة، ووعي حاضر، فليس المهم قراءة الأحداث مسرودة متتابعة، بل المهم النفاذ إلى لبها ومعرفة العبرة منها، والوصول إلى سنن الله فيها.
كما أنه ليس المهم لمن يسير في الأرض وينظر في آثار الأمم أن يراها بعين رأسه، ويسمع أخبارها بأذنه، إنَّما المهم هنا هو عين القلب وأذنه، كما قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
إن أحداث التاريخ تتكرر وتتشابه إلى حد كبير؛ لأن وراءها سنناً ثابتة تحركها وتكيفها، ولهذا قال الغربيون: (التاريخ يعيد نفسه)، وعبر العرب عن هذا المعنى بقولهم: (ما أشبه الليلة بالبارحة!).
والقرآن الكريم أشار إلى تشابه المواقف والأقوال والأعمال، نتيجة لتشابه الأفكار والتصورات التي تصدر عنها، وفي هذا جاء قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
وقال تعالى عن مشركي قريش: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم مِّنَ رَسُولٍ إلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.
أي: إن هذا الاشتراك والتشابه في الموقف من الرسل، بين الأولين والآخرين، والمسارعة إلى الاتهام بالسحر أو الجنون، لم ينشأ نتيجة تواص بين هؤلاء وأولئك، بل السبب أنهم جميعاً طغاة ظالمون، فلما تشابهوا في السبب، وهو الطغيان، تشابهوا في النتيجة.
ومن عرف التاريخ وسنن الله فيه، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، تعلّم من أخطاء الآخرين، وكان له بهم عظة، فالسعيد من وعظ بغيره، واقتبس مِمَّا عندهم من خير، فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها.