التعامل مع الصدمات
لا شك أن التعامل مع الصدمات مع أي قضية عامة,متسعة الأرجاء كقضية الصدمة سيكون تعاملا مختلفا في نوعه وطرائقه وأنماطه؛ بسبب الطبيعة التركيبية التي تصطبغ بها قضية الصدمات, والطبيعة البشرية الأشد تركيبا والأكثر تلوناً.
وقد سبق أثناء هذا البحث الإشارة إلى بعضالكيفيات المختلفة في التعامل مع الصدمات, وهنا سنشير إشارة سريعة إلى مجمل المواقف نحو الصدمات الحضارية والثقافية، وهي في الجملة ثلاثة مواقف:
1– موقف الارتماء
2- موقف الانكفاء
3- موقف الاصطفاء
1 – موقف الارتماء
وهو الموقف الذي يتسم أصحابه بالاستسلام والتقليد الكامل, أو في قضايا أساسية وأصول جوهرية اعتقادية أو فكرية أو أخلاقية, أو على مستوى نظم الحياة ومناهج التلقي والفهم والمعيارية.
وفي غالب الأحيان أن أصحاب هذا الموقف يعيشون حالة تبعية وإذعان, ويكون موقف أحدهم موقف المقلد المتحمس للفكرة أو الوضع الذي تلقى منه الصدمة, وهناك قد تحدث حالة (الاغتراب) وهي الحالة الموصوفة في حقل العلوم الاجتماعية بأنها: انفصال الفرد عن نفسه أو مجتمعه بحيث يصبح غريبا أمام نشاطه وأعماله.
وحتى لو لم تصل الأمور في الاغتراب إلى هذا الحد فإن نوعا منه يسمى الاغتراب الذهني وهو الذي يحول دون السلوك السوي فيصبح المرء وكأنه غريب عن مجتمعه.
ويمكن أن يوصف موقف الصدمة الذي يورث الارتماء بوصف (الاستلاب) وهي الحالة التي تقترن أحياناً مع لفظ (تغرّب) على ما بين المصطلحين من تفاوت, والمعنى في الدراسة النصية للاستلاب يدور حول ارتباط الإنسان بقوى خارجية،وخاصة في حقل الدراسات السياسية والاجتماعية، في حين أن لفظ تغرّب مستحسن في النصوص الفلسفية البحتة, ولعله استُحسن لكونه يعبّر عن انفصال الإنسان عند جذوره فيصبح – كما يصف هيغل– في حالة غربة عن مسيرة التاريخ الذي يعيش فيه, فلا يعرف كل الأبعاد المستقبلية التي يعيشها.
على أن أحد المعاجم ترجم المصطلح الأجنبيAlienationبـ (ارتهان, انسلاب, اغتراب) وشرحه بحسب دلالاته الحقوقية والنفسية والاجتماعية ليلخص بعد ذلك قائلا: (بكل معانيها … تدل على حال الانفصال بين الإنسان والشيء بينه وبين ذاته”جنون, خبل” وبينه وبين سواه “انحلال العلاقة بين الفرد والجماعة”, أنظر تخلخل Anomie, من هنا معنى الاغتراب الثقافي … أي التحول إلى غريب ثقافي).
ثم يضيف المعجم مبينا أن مفهوم الاغتراب (الانسلاب, الارتهان) يستند إلى مصادرات طوباوية, قوامها افتراض وجود مجتمع آخر مثالي مختلف عن المجتمع القائم فعلا الذي نعيش فيه.
وهذا المعنى هو ما يتطابق من وجوه عديدة مع مفهوم (الارتماء) أو إن شئت فقل (الإذعان) لحالة الصدمة الحضارية أو الثقافية والتحول إلى حالة (اندماج) وتبعية, قد تصل في أوج نفوذها إلى (إذعان) كامل أو شبه كامل, يتحول الشخص المصدوم حينها إلى حالة من الأمعية الفكرية أو الحضارية أو الأخلاقية, قد تصل إلى درجة الانصهار في الحالة الصادمة والذوبان التام,و قد يتطور الأمر فيه إلى حالة عمالة سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو فكرية ينفذ من خلالها طوعا إرادة وفكر الآخرين المعادين لمجتمعه وأمته, وينطق بمصالح عدوه, ويضخم من قدراته, ويجعل منه قوة لا يمكن التعامل معها إلا بالمسايرة والتكيف, ومن أوضح أمثلة هذا النوع ما أصبح يعرف بالمتصهينين العرب.
ومن الضروري إدراك أن كثيرا من أهل الارتماء له قدرة واسعة على الظهور بمظهر الناصح الشفيق, والمصلح الرفيق, والمستقل الطليق, والعقلاني المدرك, حتى وإن ظهر الباطل والفساد في قوله أو عمله وهي ظاهرة سجلهاالقرآن تنبيهًا لمن ينخدع بالمظاهر{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}
وقد أدرك عقلاء الأمة وأهل الفكر والبصيرة أحوال الذين أودت بهم الصدمات إلى حالة الارتماء, فكتبوا عن ذلك كثيرا, وما الصراع الذي جرى ويجري بين حركة التغريب وما كان يعرف بالتقدمية الاشتراكية من جهة وحركة الإسلام من جهة أخرى إلا حالة من حالات التعامل مع هذه الصدمات وتوابعها, وقد كتب الأستاذ أبو الحسن الندوي – وهو أحد الذين تصدوا لهذه الظاهرة –(كتاب الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية), ونحو ذلك عند المودودي في (الحضارة الإسلامية ومبادئها), ومحمد أسد في (الإسلام على مفترق الطرق) وغيرهم كثير, ومما ذكره الأستاذ الندوي في كتابه المشار إليه آنفا: “حركة التغريب والتقدمية في العالم الإسلامي, أنصارها ومنتقدوها” وتكلم عن موقف الاستسلام والتقليد الذي تتسم به هذه الحركة, وهو تعبير آخر عما سبق تسميته بالارتماء, ثم ذكر سمات أهل هذه الحركة, وهي الاستسلام والتقليد وتمثيل دور التلميذ البار الصغير الذي لم يبلغ سن التمييز, واستقبالهم الشغوف والمندهش لمعطيات الحضارة المادية ذات الطبيعة الخاصة, بعقائدها الأساسية, ومناهجها الفكرية, وفلسفاتها المادية, ونظمها الاقتصادية والسياسية, التي نشأت واختمرت في بيئة بعيدة عن البيئة الإسلامية, وترعرعت تحت ضغط عوامل وحوادث خاصة, ثم تحدث عن حركة التغريب في تركيا وأسبابها, مشيرا إلى ما أسماه الفئة القديمة, التي لم تكن تعرف خطورة ما يحصل ولا ضخامة ما يحدث, وما سببته هذه الفئة من إشكالات بسبب جمودها وضيق تفكيرها؛ مما أدى إلى الثورة عليها, وعلى الأوضاع التي تريد الإبقاء عليها, ثم أشار إلى مجموعة من الشخصيات التي تمثل الفئة الجديدة المبهورة بالغرب والداعية إلى الانسلاخ من الماضي والإذعان والاندماج في الحضارة الغريبة مثل: (ضياء كوك ألب), و(مصطفى كمال أتاتورك), ولبيان خطورة الدور الذي مارسه أتاتورك ترجم الأستاذ الندوي في كتابه هذا مقاطع مهمة من كتاب (أتاتورك) لمؤلفه (عرفان أوركا)
IrfanOrgaMargarete: (Ataturk) ,Michael Josten LTD, London, 1962
هذا الكتاب الذي ألفه عرفان عن إخلاص وإعجاب بشخصية كمال أتاتورك, فيه تصوير لأتاتورك وأعمالهبلا مبالغة ولا تشويه.
وهو تصوير يعطينا نموذجا واضحاً وصارخاً للفئة المصابة من جراء الصدمات وغيرها من العوامل- بداء الارتماء والتبعية والاستلاب الخالص والإذعان الكامل إلى حد الانصهار أو الذوبان, بل والسعي الحثيث والعنيف لإلحاق الأمة المسلمة بغيرها, وطمس معالمها وإلغاء هويتها ونسف مقوماتها, واجتثاث خصائصها, وإلحاقها بالغرب قسراً وطغيانا, مما جعله محل حفاوة الغرب, ومجال قدوة للمستغربين من الحكام والإداريين والمثقفين في بلاد المسلمين, وإن كانوا أقل منه عسفاً, بسبب ظروف وملابسات أحاطت بهم, وإلا فإن الذين احتذوا بأتاتورك وحاولوا الأخذ بمنهجه وتمكنوا من استعمال سلطاتهم فعلوا من العسف والأذى في المسلمين نحواً مما فعل, وإن لم ينجح مسعاهم كما نجح مسعى أتاتورك في سلخ الأتراك عن دينهم وتاريخهم وحضارتهم إلى وقتنا الراهن الذي بدأت فيه بشائر العودة إلى ذلك تدب في البلاد التركية من جديد.
لا يتسع المجال هنا لذكر الأقوال والمواقف التي سجلها بإعجاب عرفان أوركا وهو يصف شخصية أتاتورك, ولكن سأكتفي بشواهد بسيرة تدل على ما سواها؛ يقول أوركا عن أتاتورك (كان يتسلى بالخمر ويشغل نفسه بها, فإنه لا يجد ما يسلي نفسه وروحه كالإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنه كان لا يؤمن بهما)
ويقول: (قد اقتنع بأن كفاحه يجب أن يوجهه إلى الدين فإنه منافسه الأكبر, وكان يعتقد من صغره أنه لا حاجة إلى الله … وكان لا يؤمن إلا بالمشاهد المحسوس, وكان يرى أن الإسلام إنما ظل عاملا هداما في الماضي, وأنه قد جنى على تركية جناية كبيرة وألحق بها خسائر فادحة).
ثم ينقل عرفان أوركا بعض كلام أتاتورك كقوله ( … يجب أن لا نحتفل بما يقوله الناس, نحن في طريق الحضارة والمدنية, ويجب أن نعتز بذلك ونفتخر, أنظر إلى المسلمين في نواحي العالم الإسلامي ماذا يعانون من المصائب والنوازل والدمار, لماذا؟ لأنهم لم يستطيعوا أن يستخدموا عقولهم للانسجام مع هذه الحضارة السامية المشرقة, وهذا سبب بقائنا مدة طويلة في الحضيض ووراء الركب, وتردينا الآن في الهوة السحيقة …).
ثم يذكر أوركا في كتابه عن أتاتورك مقدار التبعية والذوبان والانصهار في الحضارة الغربية, وكيف كان ينظر إليها نظرة تقديس وتعظيم, يقول: (إن مصطفى كمال كان يتمسك إلى حد كبير بما يلقن ويقول ويأمر به الناس, وكان يعبد هذا الإله الجديد (الحضارة الحديثة) بحماس ولهفة, وكان له عابداً وفياً, وقد نشر هذه الكلمة “الحضارة” من أقصى البلاد إلى أقصاها, وعندما يتحدث عن هذه الحضارة تتقد عيناه لمعاً وإشراقاً, ويظهر على وجهه إشراق كإشراق الصوفية عند مراقبة الجنة).
ماذا كانت فكرته عن الحضارة وكيف كان يريد أن يرى الأمة التركية؟ يُقدُّر ذلك من الكلمات التالية التي يذكرها المؤلف:
(… يقول مصطفى كمال لشعبه: يجب أن نلبس ملابس الشعوب المتحضرة الراقية, وعلينا أن نبرهن للعالم أننا أمة كبيرة راقية, ولا نسمح لمن يجهلنا في الشعوب الأخرى بالضحك علينا وعلى موضتنا القديمة البالية, ونريد أن نسير مع التيار والزمن).
أما إذا ذهبنا نتتبع صنيع أتاتورك وتنفيذه لهذه الأفكار فسوف نجد ما يفوق الوصف, حتى إنه يمكنني القول – بلا مجازفة – لم يوجد في كل تاريخ المسلمين من أبناء البلاد الإسلامية من أضر بالإسلام والمسلمين مثل أتاتورك.
وإيراد هذا المثال الصارخ والأصلع في ارتمائه ليس إلا للدلالة على ما دونه, فإن الذين اتّسموا بهذه السمة من المرتمين يشتركون معه في هذه الصفة, وإن اختلفت درجات الارتماء, أو اختلفت المواقف المعبرة عن ذلك, أو العبارات الدالة عليه, بحسب اختلاف الأحوال والظروف.
وقد يظن بعض الناس أن مرحلة الاندهاش والصدمة ذهبت مع جيل مضى, ولكن الحقيقة أن المصدومين منذ حصلت صدمة الاحتكاك بالغرب وإلى الآن وهم على ساحات كبيرة يتحركون, وسوف أورد نصوصا قديمة وحديثة؛ لندرك هل تغير الأمر أم أنه تزايد؟ وخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى فترة ما يعرف الآن بالربيع العربي حيث الثورات والانتخابات التي أتت-في بعض البلدان العربية- بأناس يمثلون هوية الأمة في الجملة, وقد تخلصوا من صدمة الارتماء والصدمة المعاكسة: صدمة الانكفاء.
في الماضي مر بنا بعض أقوال ومواقف أتاتورك, وعلى غرارها كانت مواقف مشابهة في ميادين فكرية أو سياسية, فها هو الطهطاوي ركيزة الانطراح الأول والتبعية الأولى كان (إبان احتلال الجزائر يقيم في فرنسا, ولم يعتقد أن هناك معنى للقول بأن أوروبا خطر سياسي, ذلك أن فرنسا وأوروبا لم تسعيا في نظره وراء القوة السياسية والتوسع بل وراء العلم والتقدم المادي … فكتب عنها بإعجاب … وحين احتلت الجزائر كان الطهطاوي هناك, فلم ينل الحدث اهتمامه وأوجز رؤيته لاحتلال الجزائر بالقول: (إن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هي مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارية ومعاملات ومشاجرات ومجادلات منشؤها التكبر والتعاظم)
وهذا الكاتب نفسه الذي نقل كلام الطهطاوييقول في موضع آخر من كتابه عن أسباب النهضة ومقوماتها وأنها (تتمحور حول انفصال لا يقبل الجدل بين قيمتين: القيمة الروحية والقيمة العلمية, أو القيم الأيديولوجية والقيم التقنية, فأتيح بهذا الانفصال للمصلح النهضوي المجال لكي يتحدث عن أسباب التقدم الصناعي والتحديث).
فهذا القول ليس إلا تقمصاً مزرياً وتقليداً مكشوفاً للغرب في عقيدته اللادينية التي تفصل الدين عن الدنيا والتحضر والنظم؛ ولهذا نجد هذا الكاتب يثرّب على المسلمين الملتزمين بدينهم تفسيرهم الديني للتخلف والتقدم, ويعتبر ذلك تفسيرا خارجا عن المشكلة.