المؤثر النفسي في تقبل الصدمة
المؤثر النفسي في تقبل الصدمة
سبقت الإشارة إلى أن الصدمة باعتبارها مصطلحًا هي في الأصل من مصطلحات علم النفس ثم استعمل بعد ذلك في الجوانب الثقافية والفكرية والحضارية؛ لقوة الصلة بين الصدمة النفسية والصدمة الثقافية والحضارية, وليس ببعيد أن يقال بأن الصدمات الثقافية والحضارية تبدأ أولا بصدمة نفسية توجد نوعًا من الخلل والاضطراب الداخلي الذي يمهد لحصول الصدمة الثقافية أو الحضارية، ويقال بأن مصطلح الصدمة الثقافية (Culture shock) ظهر في عام 1954م بواسطة عالم الإنسانيات (كالفيروأوبيرغ) ([1]) وعرفها بأنها: إحساس نفسي وجسدي بالتوتر والقلق والشعور بالضياع لمن يرحل من المنطقة التي عاش فيها طوال عمره إلى منطقة أو دولة تتميز بعادات وتقاليد وجو مختلف أو مغاير تمامًا لتلك التي تعود عليها.
وأضاف أيضًا في مفهوم الصدمة الثقافية بأنها تعبير عن وصف القلق وخليط من مشاعر «الدهشة والانبهار والاضطراب, وعدم التوازن والتردد والمهابة والخجل»، التي يحس بها الناس عندما يضطرون للعمل في جو مختلف تمامًا عما ألفوه, أو يجدون أنفسهم مضطرين للمعيشة في بيئة اجتماعية غريبة عليهم, مثل العمل والمعيشة في دولةأجنبية مختلفة اللغة والتقاليد, كما أن الصدمة الثقافية تتولد من صعوبة التأقلم مع الثقافة الطارئة مما يترتب عليه عدم الدراية بكيفية التصرف الملائم([2]).
ثم شاع استخدام مصطلح الصدمة الثقافية منذ عام 1958م لوصف الاضطراب النفسي والحرج وغشاوة الرؤية التي قد يعاني منها القادم إلى مكان جديد([3]).
والشاهد من كل ما سبق ذكره أن الصدمة الثقافية والحضارية مرتبطة بشكل قوي بالحالة النفسية, فهي أولا وقبل كل شيء عبارة عن إحساس نفسي مصحوب بالتوتر والقلق والاضطراب ثم يلي ذلك ما يليه من غشاوة في الإدراك واضطراب في السلوك, في غالب الأحوال.
ولا يقتصر هذا على وجود الصدمة بل حتى على درجة حدتها التي تعتمد على عوامل عديدة من أهمها درجة النضوج النفسي ودرجة الثقة بالنفس.
كما أن للعامل العمري أثره من حيث إن فترة الشباب أكثر فترات عمر الإنسان قابلية للصدمة – كما سبق – وذلك لأن هذه الفترة تتسم بسمات نفسية معينة تساعد على حدوث الصدمة، منها: ضعف النضج النفسي, وقوة الانفعال, التي قد تصنع شخصًا غير مستقر نفسيًا وغير متزن ولا يمكن التنبؤ باتجاهاته الانفعالية, فيكون التمرد والرفض أقرب إلى نفسيته من التعقل والحكمة والتؤدة, إضافة إلى ما تحمله هذه المرحلة من تناقضات نفسية ووجدانية, يمكن أن تفسر حالة القلق وعدم الاستقرار التي قد يحس بها، وقد لا يشعر بوجودها في صخب عنفوان المرحلة, وقد تصل الحالة النفسية إلى درجة عدم التكيف النفسي مع أسرته ومجتمعه ومجموعة القيم الحاكمة فيتشكل حينها في داخله فجوة نفسية تجعله قابلا للصدمات ومتأثرًا بها بحدة, خاصة إذا كانت الظروف المحيطة به تشجع ذلك، فتكون الاستجابة سريعة قد تصل به نفسيًا إلى مرحلة النقمة العارمة والتطرف النفسي المؤدي إلى مواقف متطرفة فكريًا أوسلوكيًا.
وقد تكون هناك أزمة نفسية حادة تدفع الشاب إلى تحولات خطيرة وغير مفهومة أحيانًا، بل وقد تكون متناقضة؛ لفرط الانفعالية المتطرفة, وسهولة الاستثارة, وتقلب المزاج الذي قد يتحول من حالة نفسية ذاتية إلى أزمة هوية وانتماء يكون معها مستعدًا بل قابلا للصدمات الثقافية والفكرية, مع فرط حركة, وحدّة في الطبع, وسرعة في إصدار الأحكام, وتغيّر المفاهيم، وحين يصادف ما يحفز على ذلك بطريقة شخصية أو إعلامية أو غير ذلك, فإنه يتجرد كبطل يرى في التمرد والثورة والعناد صورة لذاته المنقسمة.
وقد يصل في حالة استجابته للصدمة إلى (مرحلة التوحد)([4]) وهي مرحلة يصفها علم النفس والسلوك بأن الشخص تصبح لديه قابلية نفسية كبيرة لتبني قيم وأفكار وعادات تكون لشخص آخر أو مجتمع آخر معجب به أو مندهش أمامه،وقد يصل ذلك إلى درجة الاشمئزاز من نفسه ومجتمعه وأمته وتاريخه،ويمارس بذلك ما يعرف بجلد الذات, ويحاول المصاب بالتوحد النفسي أن يقلد ذلك الآخر ويتصرف على النحو الذي يتصرف به, وتظهر هذه الحالة عند الشاب – مثلا -في اتساع شبكة العلاقات الاجتماعية أو تكاثر المتفرقاتالفكرية مع ضمور في المرتكزات, فتكون الصدمة حينئذ ناتج طبيعي لحالة التوحد هذه فتظهر عواطف التودد ومظاهر المحاكاة الفكرية أو السلوكية وعلامات الإعجاب المبالغ فيه, بالقدر الذي تظهر فيه عواطف التمرد على السائد حتى ولو كان إيجابيًا، والنفور من أفكاره وسلوكياته وأنماطه ومناهجه, وتحدث حالات التوحد أكثر في الشخص ذي الطبيعة العاطفية وهي في الشابات أكثر ظهورًا, ويمكن القول بأن حالة (التوحد) الفكري والثقافي هي حالة نفسية ذات درجاتمختلفة،من أعلاها زوال المرتكزات والثوابت الصحيحة،وحصول الارتياب فيها أو فيما يتعلق بها،خاصة حينما يصاب الإنسان بأزمة هوية.
وليس الأمر في العامل النفسي مقتصرًا على التوحد، بل هناك حالات نفسية أخرى قابلة للصدمات ولديها الاستعداد النفسي لذلك.
وفي الكتب والأبحاث المختصة بعلم النفس مصطلحات ذات طبيعة تحليلية أووصفية للحالات النفسية التي يمكن أن يكتشف الباحث مدى قابلية أصحابها للصدمة, ولسنا بصدد التوسع في هذا المجال, وإنما نذكر بعضًا من ذلك من غير إغفال للعوامل والمؤثرات الأخرى التي تساعد على حصول الصدمة أو تزيد من حدتها أو مدتها.
ومن الحالات النفسية المشار إليها ما يعرف بــ(البارنويا) أوجنون العظمة والاعتداد الزائد بالنفس الذي يوصل صاحبه أحيانًا إلى تصور نفسه المنقذ والمخلص للناس من الأوضاع المتردية بحسب رؤيته، وقد يتعاظم هذا الداء إلى حالات أكبر صعوبة, فيقوده اعتداده بنفسه ورأيه وأفكاره التي هي -في الغالب- مستعارة أو مجمعة ملفقة من عدة آراء ومذاهب؛ إلى حسبان ذاته الشخصية الفذة النادرة التي تعلم ما لا يعلمه الآخرون, وتفهم أكثر مما يفهمه معاصروه من العلماء والمختصين, فيصنع لنفسه شخصية خيالية متعاظمة, ولكنه لا يشعر في الوقت ذاته أنه مصاب بصدمة معينة أضحى فريسة لها.
وهذه الحالة النفسية توجد في بعض الأشخاص, وتشكل مجالا خصبًا للتشوهات النفسية, وخاصة إذا كان الشخص يعاني من عقدة اضطهاد حقيقية أومتوهمة,أوعقدة التميز المفرط للذات, وهذه الحالة النفسية تقوم على أوهام مصحوبة بصفة تبدو منطقية ومنظمة ويمارس أصحابها أساليب عديدة لجذب الاهتمام, والتركيز على رأي الآخرين فيهم, ونظرتهم إليهم, مع شغف بالثناء, والإفراط في الرغبة للفت النظر إلى الذات, وتوجد هذه الحالة في المغمورين وعامة الناس, كما توجد في الموهوبين والمتميزين, بل ربما وجودها في هذا الصنف أكثر من وجودها في غيرهم, وقد تظهر الحالة في شكل رغبة عارمةلطلب التقدير والثناء,أو التفاخر بالقدرات أو الذات أو العرق أو الإنجازات, وأحيانًا تظهر في فعل القبيح المستبشع, أو في افتعال تصرفات غربية كاتخاذ الشاذ من الملبوسات أو المركوبات أو المظهر الشخصي, وتوجد في المثقفين والمتعالين وفي بعض أهل العلم أو العبادة أو أصحاب الفكر, وهي في هؤلاء أكثر خفاء وأشد أثرًا.
كالفيروأوبيرغ, باحث متخصص في علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا, قام بأبحاث ميدانية عن الصدمات والنقلات الثقافية والحضارية عبر ثلاث قارات, انظر: دليل الآباء للتعامل مع الصدمة الحضارية لباسكوروبين من منشورات تايمز عام 2000. نقلا عن دراسة بعنوان: (النقلات الحضارية ص19), مركز الدراسات الاستراتيجية, جامعة الملك عبدالعزيز – جدة, لم ينشر, وسنشير إليها في الإحالات اللاحقة باسم (النقلات الحضارية).
الصدمة الحضارية لكالفيروأوبيرغ, دار بوبز – مريل طباعة عام 1954، نقلا عن:النقلات الحضارية،ص19.
التوحد, وقد يسمى بالتماهي،وهو عبارة عن سيرورة سيكولوجية/نفسيةتبدأ من المحاكاة اللاشعورية ثم تتلاحق بالتمثيل للنموذج والمحاكاة له والاندهاش به , انظر المعجم الموسوعي في علم النفس 2/781 لنوربيرسيلامي, ترجمة وجيه أسعد.
البارنويا: خلل يتميز بتطور بطيء لدى الشخص عبارة عن أوهام وأهذية تتعلق بالاضطهاد والعظمة أو بالاثنين معًا, وتتسم هذه الأوهام – غالبا – بصفة منطقية وحسنة التنظيم وتتخذ طابع المرض النفسي عند المصاب بها فيكون مصابًا بعقدة الاضطهاد,أو أنه يدعي لنفسه العظمة, وبذلك تعتبر هذه الحالة ذهانية تتميز بالهذاء المنظم المنطقي، ومن هنا يطلق على هذه الحالة (هذاء العظمة) من حيث إن الفرد يظن أنه يتمتع بقدرة خارقة, أو بأن له أهمية خاصية في ناحية من النواحي, مع عدم ظهور اختلال انفعالي أو عقلي, انظر: الموسوعة النفسية لخليل أبو فرحة 26 – 27، وعلم الأمراض النفسية والعقلية لرتشارد.م. سوين, ترجمة أحمد عبدالعزيز سلامة 101 , 658 , 660.