المراد بالمرجعية

مقطع من كتاب المرجعية للدكتور سعيد بن ناصر الغامدي يوضح فيه المراد بالمرجعية
عند التأمل في أقوال العلماء والمفكرين وأصحاب المذاهب والاتجاهات المختلفة نجد أن مصطلح (المرجعية) يستعمل في ثلاثة مستويات:
الأول: (وهو أعلاها) يراد بالمرجعية فيه:
الإطار الكلي والأساس المنهجي والركيزة الجوهرية في أي خطاب أو ملة أو مذهب أو دستور أو نظام.
وهذا هو المستوى الأكبر من حيث العلو والعمومية والشمول والاستيعاب، بحيث تصبح المرجعية هي المصدر النهائي الذي ترد إليها الأمور وتنسب إليها، فهي بهذه المثابة تصبح نظاماً كلياً عاماً، ومصدراً ضرورياً لتفسير كل شيء من خلال هذا النظام المرجعي الكلي( ).
وفي هذا المستوى تفترق المرجعيات السائدة في عصرنا إلى مجموعتين:
الأولى: ترى المرجعية النهائية والكلية تعود إلى (واحد) (أعلى) من الإنسان والكون والطبيعة والمادة، ولا يعلو عليه شيء، إنه (الله) سبحانه، الموجد للعالم و (كل ما سوى الله عَالَم) وهو مصدر وحدة الكون ونظامه الطبيعي، وهو منزه عنه؛ لأنه خارج عالم الطبيعة والمادة والتاريخ وأعلى وأجل من أن تحيط به، بل هو سابق عليها، وهو الذي يدبرها ولا يحل فيها ولا تحل فيه، ولا يمكن أن توجد حياة أو كون أو إنسان أو مادة أو طبيعة دون وجوده، كما لا يمكن أن تستمر في وجودها واتساقها بدون هذا الإله، الذي تعود إليه المرجعية النهائية في شأن (العالَم) خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً.
الثانية: ترى المرجعية النهائية والكلية تعود إلى (العالم) أي أن العالم يحوي داخله ما يكفي لنشأته وصيرورته واستمراره وتفسيره، كل ذلك ضمن إطار واحد لا يوجد سواه هو إطار (المادة) التي يتكون منها كل شيء ويؤول إليها كل شيء، وليست هناك حاجة لأي مرجعية خارج النظام الطبيعي.
أما المرجعيتان الأخريان (السماوية المحرفة) و (الوثنية) فهي وإن كانت موجودة ولها أتباع، ولكنها تأثرت بالمرجعية المادية ، فظاهرة علمنة النصرانية واليهودية بارزة ومشهورة، وتسلل المفاهيم المادية إلى هاتين الديانتين على مستوى المفاهيم والتطبيقات أضحت جلية لكل باحث متعمق في شؤون النصرانية واليهودية، ومن أبرز ذلك محاولات القساوسة والرهبان والحاخامات تطويع أديانهم لتسير على قضبان القطار المادي.
أما (المرجعية الوثنية) فإنها تستند إلى آلهة (مادية) (إنسان، صنم، وثن، نهر، بقرة، كواكب… إلخ) فهي في حقيقة الأمر (مادية طبيعية) وإن اختلفت في غيبياتها وطقوسها العبادية عن ما يسمى (المادية العلمية) على أن هذه التسمية ليست صحيحة، ولكن الفكر الغربي المعاصر درج على إطلاق لفظ (علمي) بمعنى (محسوس) أو (تجريبي) مقابل (الغيبي) وسار على نهجه تلامذته المقلدون له من أبناء البلاد الإسلامية.
المستوى الثاني للمرجعية: المصادر والمستندات والأدلة التي يُعتمد عليها لتكوين أي نوع من أنواع المعرفة.
وفي ذلك عدة اتجاهات قديماً وحديثاً، فهناك – على سبيل المثال – من قال بأن العقل هو مصدر المعرفة اليقينية، وادعى الحسيون أن الحواس هي المصدر الوحيد للمعرفة، وقال آخرون بأن الوحي وحده مصدر المعرفة، وعموم علماء الإسلام على أن الوحي والعقل والحس والفطرة مصادر للمعرفة وهي على درجات ولكل منها مقتضيات ومجالات( ).
المستوى الثالث للمرجعية: (ممثلو المرجعية):
وهم الأشخاص الذين يعاد إليهم في الشؤون العلمية أو العملية.
فداروين ونيتشه وفرويد من (مرجعيات) الفكر المادي، ونتاجهم يعتبر من الأصول المعرفية للدنيوية المعروفة اصطلاحاً بالعلمانية.
والصحابة مرجعية لأهل الإسلام (في الجملة) ، وأرسطو مرجعية لأهل الفلسفة.
بيد أن من أشهر من استعمل مصطلح (مرجعية) بهذا الاعتبار الشيعة ، كما سبقت الإشارة إليه، والمرجعية عند الإثني عشرية تأخذ صفة تتلبس بالقداسة، وتكاد تصل إلى درجة العصمة عند كثير منهم، وبذلك يتحول (المرجع) من ممثل لمرجعية فكرية أو عقدية إلى كونه هو بذاته يصبح (مرجعية)( ).
وتكاد بعض الطرق (الصوفية) المنتسبة إلى السنة تصل بشيوخ الطريقة إلى تلك الدرجة التي وصل إليها الشيعة في أئمتهم ومرجعياتهم.
أما عموم أهل السنة فيقل استعمالهم لمصطلح (مرجعية) وإذا استعملوه فيريدون به (العلماء) الذين هم عند أهل السنة ذرائع لمعرفة الحكم الشرعي، وطاعتهم مقيدة بهذا الاعتبار، فليست لهم طاعة مطلقة ولا طاعة ذاتية، وليس لهم حق في التشريع المطلق، ولا يتجاوز دورهم حفظ النصوص الوحي وفهمها واستنباط الأحكام منها، والنظر في النوازل وبيان الحكم الشرعي فيها بالرد إلى نصوص الشريعة، وقد يصيبون وقد يخطئون.
وقد تطلق (المرجعية) في هذا المستوى على الجهة التي يحتكم إليها المتخاصمون كالمحكمة والقاضي، أو الجهة التي بيدها الحل والعقد، كالوالي والحاكم والسلطان.
ومما سبق يتضح أن المرجعية في المستوى الأول أعم وأشمل وأعمق، وفي المستوى الثاني هي الأدلة الكلية أو الجزئية، والتي هي داعمة ومؤيدة ومقوية ومغذية للمستوى الأول، أما في المستوى الثالث فتصبح المرجعية النموذج المشاهد الذي يخرج بالمرجعية ومصادرها وأدلتها من حيز التجريد إلى حيز الوجود والتشخيص، بغض النظر عن الغلو في هذا أو عدمه، وقد يتمثل ذلك عالم معتمد أو كتاب، أو منهج علمي أو عملي، أو في هيئة أو نظام.
ولعله بعد هذا العرض يمكن الخروج بمفهوم يجمع المستويات الثلاثة ويضمها في سياق واحد.
فيقال المرجعية هي:
(الإطار الكلي والأساسي المنهجي، المستند إلى مصادر وأدلة معينة، لتكوين معرفة مّا أو إدراك مّا، يبنى عليه قول أو مذهب أو اتجاه يتمثل في الواقع علماً أو عملاً).