المرجعية المادية
المادية منسوبة إلى المادة، وهي اسم فاعل للمؤنث، ومادة الشيء هي ما يحصل الشيء معها بالقوة، أو كل شيء يكون مداداً لغيره، وتطلق أيضاً على كل جسم ذي امتداد ووزن، ولعل أشمل من ذلك أن المادة هي ما يشغل حيزاً من الفراغ.
والمادية اتجاه فلسفي وضعي له نفوذ كبير وسيطرة على علوم كثيرة وممارسات عديدة، ويقوم هذا الاتجاه على أساس أنه لا وجود لأي جوهر غير المادة، وعليه تقوم المرجعية المادية التي هي المرتكز الجوهري لكل الفلسفات والنظم والمناهج والمدارس والممارسات الغربية الدنيوية (العلمانية) على اختلاف توجهاتها وتنوع وتضاد مضامينها ومسمياتها، إلا أنها تلتقي في المرجعية المادية بوصفها المركز والمقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع، وهي بذلك تعتبر الأساس والمطلق والمبدأ الأول لدى المؤمنين بها، وهذا ما سيوضحه التعريف التالي للمرجعية المادية.
[الإيمان بأن المادة وحركتها أزلية ذاتية الوجود، لا تفنى ولا تستحدث من العدم، ولها قوانين آلية كامنة فيها تخضع لها كل الموجودات خضوعاً حتمياً، وبها وحدها يمكن تفسير الوجود والسلوك وحركة الكون والإنسان والحياة، التي هي في تغير مستمر، وصيرورة دائمة، وعلى وفق الوحدانية المادية توضع النظم والقيم وتقام العلاقات والمذاهب والمناهج والاتجاهات].
هذه هي أهم المفاهيم المادية التي تصدر عنها الفلسفات والمذاهب الغربية المعاصرة، والتي أصبح لها السيادة الفكرية والسلوكية والعملية على مجمل الحياة الغربية والتي يسعى الغرب في نشرها في كل العالم باعتبارها تقدماً ونهضة وحضارة، فكل من قال بذلك فهو مادّي المذهب، وإن آمن بغيب مـّا، ويندرج في هذا الاتجاه من قال بهذه المفاهيم أو بعضها من المنتسبين إلى الإسلام أو غيره من الأديان، وإن كان في ممارساته الشخصية يتبع تعاليم دينه، على أن هذا الصنف أقل غلوّاً في المادية من صرحاء المؤمنين بها من الملاحدة واللادينيين، وهو في الوقت ذاته ربما كان أشد تأثيراً في ترويج المادية والدعوة لها؛ لما يتلبس به من ديانة، وما يمارسه من عبادة، وخاصة بين المسلمين، فينخدع به أناس ليست لديهم القدرة على معرفة المفاهيم والمضامين المادية، وليس عندهم من العلم ما يدفع الشبهة أو يزيل الالتباس.
وعند التأمل في مضامين هذه المرجعية وتفكيكها إلى عناصرها الأولية سنجد أنها تضم مجموعة من المفاهيم الكبرى وأهمها:
(الإيمان بأن العالم كله مادة) وهذا يشمل عدة قضايا كبرى:
1- اعتبار المادة هي الحقيقة الوحيدة، وعليه فكل موجود فهو مادي، أو يعتمد كلية في وجوده على المادة.
2- أن كل ما يبدو وكأنه ليس مادة مثل الروح والعقل والنفس والوجدان وما يتبع ذلك من ظواهر نفسية أو أخلاقية أو اجتماعية أو اقتصادية إنما هي في واقع الأمر مادة، وإنما يفسرها الوجود المادي، لأن كل التغيرات لها سبب مادي، ولذا فإن التفسيرات المادية – عند أصحابها – هي وحدها الممكنة والصحيحة.
3- أن الواقع الموضوعي يتكون في حقيقته من مركبات مادية متناهية في الصغر من حيث الحجم، ومتحركة حركة دائبة، وكل ما في الوجود فهو إما هذه المركبات بذاتها، أو أشياء مكونة منها أو علاقات بينها، وما عدا ذلك فلا وجود حقيقي له.
أما (الإيمان بأزلية المادة واعتبارها ذاتية الوجود) فهو مفهوم (مطلق) قائم على أساس أن المادة علة ذاتها ومكتفية بذاتها، ولا تخضع لأية قوة خارجها، ولا يوجد سبب أو محرك خارج الكون لأن (المادة) عبارة عن نظام واحدي مغلق مكتف بذاته، توجد في داخله مقومات حياته وحركته، بل ويحتوي في باطنه على كل ما يلزم لتفسيره وفهمه، وهذا النظام المادي الأزلي ضروري كلي شمولي تنضوي كل الأشياء تحته ولا يمكنها أن تخرج من قبضته.
أما كون (حركتها أزلية) فهذا أصل ومنطلق القول بالصيرورة الدائمة وأنه لا ثبات مطلقاً، فكل شيء في حالة تغير مستمر، ضمن المسار اللانهائي للحياة.
أما كون (المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم) فهو في مقتضيات الإيمان بأنه لا وجود لجوهر غير المادة ، ومن لوازم الاعتقاد بأزلية المادة ، ولكن تخصيص هذه العبارة يأتي غالباً في سياق إجابة الماديين( )على سؤال من يسأل عن أسباب تغير الظواهر المادية وتبدلها وتنوع تجلياتها، ومن يسأل عن عدم حصول النتائج رغم وجود الأسباب المادية الموجبة للنتيجة، ومن يتحدث عن تنوعات السلوك الإنساني بأشكال غير متوقعة.
وتأتي عبارة (المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم) أيضا عند الحديث عن (الطاقة) بوصفها – عندهم – مادة مرتبطة بشبكة سببية صلبة مترابطة شاملة مكتفية، ليست في حاجة إلى من يوجدها من العدم؛ لأنها بذاتها (جوهر مطلق) غير معتمدة على من يوجدها أو هو يعطيها الحركة والفاعلية، فحركتها وفاعليتها في ذاتها، وهي حركة دائبة مستمرة أبدية لا يتطرق إليها الفناء، وهذه مفاهيم مادية بحتة وإن حاول بعض المتأثرين تلميعها بتفسيرات تضفي عليها نوعاً من القبول.
أما كون المادة (لها قوانين آلية كامنة فيها تخضع لها كل الموجودات خضوعاً حتمياً) فهذا نتاج القول بأن الواقع الموضوعي للكائنات سواء أكانت أجساماً جامدة أو كائنات حية أو جماعات بشرية لها طبيعة مركبة من لبنات مادية، وهذا التركيب محكوم بقوانين ذاتية آلية مطردة وحتمية، ولذلك وجب أن يبحث الناس عن تفسير لكل الظاهرات والتجليات النفسية والاجتماعية والحيوية والفيزيائية في أسباب ضمن هذا الكون المادي فقط، لأن هذا الكون وما فيه مكتف بنفسه غير محتاج إلى قوة خارجية تخلقه أو تدبر أمره أو ترسم مساره.
وبناءً على ذلك فإن الطبيعة أو المادة وقوانينها لا تكترث بالإنسان ولا تحتفل بخصوصيته أو تميزه عن بقية الكائنات، وليس لها علاقة بأحزانه وآماله ومشاعره، لأنه ليس سوى جزء لا يتجزأ من المادة أو من الطبيعة، وهو خاضع حتماً لقوانينها الجبارة التي يجب أن يرجع إليها الإنسان ويعاد تفسيره كاملاً من خلالها.
وهذا هو معنى أن القوانين المادية (بها وحدها يمكن تفسير الوجود والسلوك وحركة الكون والإنسان والحياة).
ذلك أن هذه المرجعية المادية وُضعت لتكون رؤية شاملة للكون والإنسان والحياة بكل المستويات وفي كل المجالات، وهي حينما آمنت (بالمطلق المادي) استبعدت وجود خالق، وحتى مع الإيمان بوجوده فإنها تستبعد تدبيره وحقه في أي تشريع أو نظام.
وعلى هذا المبدأ يرى الماديون أن كل ظاهرة خارقة لقوانين الطبيعة فهي إما كذب أووهم لا أساس له، أو لا بد من وجود قانون طبيعي مادي لم يكتشف بعد، وكل تفسير للظواهر النفسية أو الاجتماعية أو الكونية بأسباب خارج الإطار المادي لا يعتبرونه تفسيراً علمياً، أي أن التفسير العلمي هو بالضرورة تفسير مادي إلحادي، حتى أن كلمة (العلم) و(المواد العلمية) أصبحت وصفاً لهذا النوع من التصور، وبذلك سهل عليهم المقابلة بين العلم والدين، وانخدع كثير من الناس بذلك.
أما كون(حركة الكون والحياة في تغير مستمر) فهو تعبير عن مبدأ (الصيرورة) الذي يعني (التغير في ذاته من حيث أنه انتقال من حال إلى حال أخرى، ويقابل الثبوت والسكون)( ).
وهذا ما سبق الإلماح إليه في أول تعريف المرجعية المادية: بأن المادة وحركتها أزلية ذاتية الوجود، ثم أعيد هنا لخصوص مفهومه، ولكونه أحد أهم أركان المرجعية المادية، وهو قائم على أن الوجود في صيرورة دائمة وتغير مستمر وليس له غاية ينتهي إليها، بل الصيرورة غاية في نفسها وحتمية، وهي كل شيء ولاشيء وراءها، وهذا المبدأ يتضمن نفي الثبات مطلقاً والقضاء على فكرة الخلود، وزعزعة كل شيء كان راكزاً من قبل، والسعي لتحطيم كل ما كان راسخاً عند الإنسان تحت معاول الصيرورة، وخاصة الدين والأخلاق ومعايير العدل والخير والحق وإنسانية الإنسان.
إن الصيرورة هي الأم الحقيقية لفكرة (النسبية المطلقة) التي تولد منها جملة من الأفكار والنظم الليبرالية المعاصرة.
إن مفهوم (التغير المستمر) يتوافق مع أصل الإيمان بمطلقية المادة واستقلالها وذاتية قوانينها، وهو مفهوم قوامه التطور المطلق المرتبط أصلاً باعتقاد أبدية الحياة الدنيا واستحالة الحياة الأخروية، ومن هذه الافتراضية تدافعت كل النظريات والمذاهب والأفكار والاتجاهات الحديثة معتمدة على صدق فرضية (داروين) في النشوء والارتقاء وفي مقدمتها التفسير المادي للتاريخ وعناوينه المتعددة كالمادية
الاقتصادية والمادية التاريخية( ) والمادية الجدلية.
والمذهب الطبيعي في الفلسفة( ) والمذهب العقلاني( ) والوضعية( ) والوجودية( ) ولا يقتصر الأمر على المذاهب ذات الاتجاه الإلحادي بل حتى المذاهب الأخرى التي لا تعلن الإلحاد وهي ضمن هذا المسار أيضاً.
أما مفهوم (الوحدانية المادية) فالمراد به الاعتقاد بمبدأ واحد هو وحده مصدر الكون ومرجع وحدته وتناسقه، والضابط لنظامه، وهذا المبدأ الواحد يعلو على كل شيء ولا يعلو عليه شيء، وهو في هذه المرجعية قوة مادية خالصة موجودة في المادة وجوداً (حلولياً)،
وبذلك يمكن إدراك ثلاثة مفاهيم ينطوي عليها هذا المعنى:
أولاً: تأليه المادة وإضفاء صفة الربوبية إليها.
ثانياً: جعلها في حالة (حلول) دائم أو (وحدة وجود دائم) أي أن (العالم لا يسلــّم إلا بوجوده ويرد كل شيء إلى المادة فهي حية بذاتها، وعنها نشأت الكائنات جميعها وهذه وحدة مادية)( ) تقوم على أن كل ما في الكون مكون من جوهر واحد مكتف بذاته.
ثالثاً: أن العالم والإنسان مستغن عن أية قوة خارجية، ولذلك أصبح من حق الإنسان أن يضع لنفسه من النظم والأخلاق ما يتسق مع النظام المادي، في تسوية كاملة بين الإنسان والكائنات الطبيعية من حيث إلغاء التميزات الإنسانية (الروح العقل العاطفة) أو تفسيرها تفسيراً داخل إطار (الوحدانية المادية) التي يؤمن بها الماديون( ).
أما كون المرجعية المادية قاعدة بناء، عليها (توضع النظم والقيم وتقام العلاقات والمذاهب والمناهج والاتجاهات) فقد سبق الإلماح إلى ذلك عند ذكر الماركسية والوجودية والوضعية بوصفها أمثلة فقط، وإلا فإن جميع النظم والمبادئ والدساتير الحاكمة في الغرب لا تخرج من هذا الإطار، وكذلك معظم مناهج التفكير والتربة والإعلام، مما يزيد التأكيد على أثر المرجعية في حياة الناس وعلاقاتهم وسلوكياتهم ومعظم نظم حياتهم.