تداعيات صدمة التقنية الحديثة واللودية

“اللودية الحديثة” (Neo-Luddism) هي عبارة عن حركة حديثة لمقاومة التطوير في التقنية عموما أو في تقنية مخصوصة( ). وبينما من الشائع في المملكة المتحدة أن يسخر البعض من أنفسهم بالقول أنهم لوديون إذا لم يحبوا تقنية ما أو وجدوا صعوبة في استخدام تقنية حديثة؛ فإن من النادر أن يصف البعض أنفسهم بأنهم “لوديون جدد” وإن كان هذا التعبير يوظفه مروجو التقنيات لوصف أشخاص أو منظمات تقاوم التقدم التقني بوصفهم متخلفين أو مصابين بصدمة ما( ).
وعلى نقيض “البدائيين الفوضويين” فإن من يوصف بأنه “لودي جديد” ربما لا يعتبر التقنية شرا في حد ذاتها, رغم أنه قد يعتقد أن الكثير من التقنيات تؤثر على الطبيعة الإنسانية بصورة تتدنى معها الجودة العامة للوجود الإنساني, غير أن “اللوديين الجدد” يعارضون بصورة عامة التبني السريع للتقنية في المجتمع على قاعدة أن الآثار السلبية لتلك التطورات على الأفراد والمجتمع والكون قد تفوق الفوائد المرجوة منها.
وعادة ما يرفض المفكرون اللوديون الجدد الادعاء الشائع بان التقنية بالأساس خالية من القيمة أو خارجة عن موضوع الأخلاقيات, أو الزعم بأنها مجرد مجموعة من الأدوات التي يمكن أن تستخدم في الخير أو الشر, بل إن بعض التقنيات تميل تلقائيا إلى تعزيز قيم فاسدة أو عدم تقدير قيم إيجابيةمعينة، فبعض التقنيات تدعم الجفاء الاجتماعي والطبقي, والتدهور البيئي, والفساد الروحي, رغم تسويق الشركات للتقنية على أن التقنية التي تقدمها هي إيجابية في كل الأحوال. كما أن اللوديين الجدد – على الرغم من وصفهم بالتخلف أو الصدمة من قبل مناوئيهم– يزعمون بأن التقنية قوة يمكن أن توصل إلى مخاطر كثير منها أنها:
تنزع لباس الإنسانية وتدخل الشقاق بين الناس.
تحطم البنية التقليدية للثقافة والمجتمع والأسرة.
تلوث اللغات.
تخفض من الحاجة إلى التواصل بين شخص وآخر.
تغير تعريف ما يعني به أن يكون الشخص بشرا.
فناء البشر بتحطيم النظم المتطورة الداعمة للحياة في المحيط الحيوي للأرض بصورة بشعة.
ومن الجدير ذكره أن الأشخاص الذين يمكن وصفهم باللوديين الجدد هم من خلفيات سياسية وفكرية مختلفة منها المحافظ ومنها الفوضوي, كما أن مبررات الموقف المعادي للتقنية تتأتى مع مختلف الأطياف السياسية, فاليساريون الذين يعارضون التقنية يعارضونها لأنها قد تؤدي إلى النتائج التالية أو بعضها:
خسران الخصوصية الشخصية.
تدهور البيئة بما في ذلك القضاء على البشرية.
تفشي الاستهلاكية والشمولية.
عدم الرحمة مع الحيوان.
الفساد الاجتماعي.
انهيار طرق الحياة القائمة على الطبيعة
الفصل بين العامل وأساليب الإنتاج.
بالمقابل فإن من يوصفون بـ: “اللوديين اليمينيين” يعارضون التقنية عموما بناءً على أنها تساهم فيما يلي:
تحلل العادات الاجتماعية
نزع البعد البشري
انهيار طريقة المعيشة التقليدية.
تحلل الديانة, وإيجاد والانحلال الإلحادي.
الاتجاه المتراكم والسريع نحو “عالم مادي جديد”( ).
وسواء أكان الحوار يمينيا أو يساريا فكله يؤدي إلى مستخلصات توصل إليها اللوديون الجدد؛ تلك الاستنتاجات قد تتضمن ضرورة القيام ببعض أو كل مما يلي:
زيادة التحكم الحكومي في تطوير التقنية.
الرفع من مسؤولية المستهلك.
الرفع من مسؤولية الشركات.
التقصي الأخلاقي في التداعيات الناجمة أو التي قد تترتب على وجود تقنيات محددة، بالنسبة للمجتمع والبيئة.
بل إن هناك بعض المفكرين الراديكاليين (المتشددين) الذين ينادون بتقويض البنيان الفني القائم للحضارة, بدلا من محاولة إضعاف اعتماد المجتمع البشري على التقنية.
أما أولئك الذين لا ينتمون إلى اليساريين أو المحافظين أو الذين قد يتوافقون مع كليهما إلى حد مّا فإنهم قد يناهضون التقنية على أساس فوضوي بالأساس, حيث إنهم يرون أن النمو غير المحدود في المجتمعات الحرة يميل إلى الزيادة في تحكم الحكومات والشركات وتأثيرها على حياة الأفراد ويؤدي حتما إلى مزيد من عدم المساواة, والفوضوية فلسفة سياسية تتضمن نظريات ومواقف رافضة للالتزام بحكومة أو دولة, وتدعم إزالتها, كما أنها عادة ما ترجع على رفض السلطة الملزمة أو الدائمة؛ أو بمعنى آخر إن على المجتمع أن ينظم نفسه دون الحاجة إلى دولة تسلطية( ).
أما أولئك الذين يطلق عليهم “اللوديين الجدد” فقد يطلق عليهم معارضوهم اسم: “الفوضويون البدائيون”. كما أن تعبير “اللوديين الحيويين” كثيرا ما يطلق على أشخاص يعترضون بالتحديد على تطوير أنواع معينة من التقنية الحيوية؛ غير أن أحدهم مثل “كيل لاسن” (KalleLasn), يصف نفسه بأنه “ثائر اجتماعيأولودي جديد”, وقد أسس مجلة “آدباسترز” (Adbusters)؛ أي فاضحة الإعلانات, وهو يدير “بلاكسبوتآنتيكوربروشن” (Blackspot Anticorporation), أي مؤسسة النقطة السوداء المضادة للشركات. وكذلك هو الحال مع “ناعومي كلاين” (Naomi Klein)( ).
وبعض اللوديين الجدد الذين يتبعون نهج الفوضويين البدائيين أو الخضر الفوضويين لا يعتدّون بمنهج اللوديينالمعبرين بمجرد الكلام, بل يندفعون بالنقاش الصريح القوي الحاد المضاد للتقنية التي يرون أنها صورة أساسية للطغيان والترف, وهناك مجموعات مثل “جبهة تحرير الأرض” (Earth Liberation front), قد يعتبرون من اللوديين المتوجهين للعنف, ويستندون إلى حركة اللوديين التاريخية في بدايات القرن التاسع عشر,وكثيرا ما يشار إليها بالإيجابية من قبل اللوديين الجدد في العصر الحاضر رغم لجوئها إلى العنف.
وهناك تصنيف لأناس على أنهم “لوديون جدد” نتيجة لتلاحمهم الظاهر على الجبهة السياسة, وهذا يرجع في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أنه من المتوقع أن المعارضين للتقنية يؤيدون أي مشروع قانون يعرض على “المشرعين”-حسب تعبيرهم- للحد بصورة أو أخرى من ابتكارات تقنية, رغم اختلاف أو تعارض الدوافع, ورغم أن من الشائع أن اللوديين الجدد لا يدعمون أو يقبلون أفكار العنف أو ممارسته, إلا أن بعضهم يمارس العنف, ويطرحون في سبيل ذلك فلسفتهم التي تبرر العنف.
كما أن بعض اللوديين الجدد غير العنيفين لا يعترضون على استخدام العنف باعتباره صدمة مواجهة للصدمة, وهناك أعمال العنف قام بها لوديون جدد مشهورون مثل “تيودور كازينسكي”, ومجموعات مثل “جبهة تحرير الأرض” وجبهة تحرير الحيوانات (Animal Liberation front(ALF))( ), وقد اعتبر مكتب التحقيقات الفيدرالي (Federal Bureau of Investigation (FBI)) أن الفوضويين الخضر (Green Anarchists) على رأس مخاطر الإرهاب الداخلي, وقد أدى ذلك إلى ملاحقة ما يوصف بحركات البيئة الراديكالية (المتشددة) المسماة (الرعب الأخضر) (Green Scure)( ), حيث إن غالبية الذين أوقفوا من تلك المجموعات وجهت لهماتهامات القيام بأعمال تخريبية مماثلة لتكتيكات اللوديين الأصليين في انجلترا؛ غير أن هؤلاء يمثلون جزءًا صغيرا وليس كل من يسمون باللوديين الجدد.
وتعبير “الرعب الأخضر” نشره نشطاء حركة حماية البيئة؛ للإشارة إلى إجراءات الحكومة الأمريكية تجاه حركة البيئة الراديكالية, قياسا على “الرعب الأحمر” عندما سيطرت على الحكومة مخاوف توغل الشيوعية في المجتمع الأمريكي, وقد ظهر التعبير إثر جلسات الكونجرس الأمريكي في12 فبراير 2002م, لنقاش تهديد الإرهاب البيئي, بما في ذلك “جبهة تحرير الحيوانات” و “جبهة تحرير الأرض”( ).
ومنذ عام 2000م قدمت للمحاكمة أكثر من عشرين قضية تتضمن مدافعين عن البيئة مما أدى بأحد الصحفيين إلى وصف الأحداث على أنها محاولة لإعادة تعريف حرية التعبير وإعادة تعريف تخريب الملكيات بدافع بيئي, مثل إشعال النار في المباني, أو تحطيم معدات قطع الأشجار, على أنها أعمال إرهابية( ).
بينما علقت منظمات الإعلام البديلة على العملية بأنها تشابه عمليات متابعة السحرة في القرون الوسطى, وأنها موجهة إلى تعطيل الحركات السياسية والطعن في مصداقيتها( ). أما النشطاء في مجال الدفاع عن البيئة فأصروا على أن المخاوف التي تشيعها الحكومة تشابه المكارثية التي تعسفت في متابعة الشيوعيين( ) ويمكن أن يدخل في هذا السياق ما جرى من جدل وصراخ حول قضية (الخلايا الجذعية) التي رأى البعض أنها شكلت صدمة ثقافية وحضارية وأخلاقية,فعقب أشهر قليلة من تولي جورج بوش (George W. Bush) رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية أصدر مرسوما في 9 أغسطس عام 2001مو بحظر إنفاق المال العام على بحوث الخلايا الجذعية (Stem Cells) التي تستخدم خلايا جذعية في الأجنة باستثناء تلك الموجودة إلى ذلك التاريخ, حيث كانت تلك السياسة مقترحة من “ليون كاس” (Leon Kass) و “فرانسيس فوكوياما” (Francis Fukuyama) المكلفين من لجنة الرئيس في الأخلاقيات الحيوية (Bioethics)( ).
وبينما كان الدعم للحظر المبني على بحوث “كاس” في ظاهره من أعمال اللودية الجديدة أو ضد التقنية, فقد لاقى القرار نقدا شديدا من غلاة التقنية, هذا إلى جانب أن كتابات “كاس” العديدة في مجال الأخلاقيات الحيوية( ), تعبر عن اعتراضه على العديد من صور التقنية الحيوية؛ مما يوفر لمعارضيه القاعدة التي يرتكزون فيها على اتهامه بأنه من المصابين بصدمة ثقافية وحضارية ،وأنه إضافة إلى ذلك من أعلام اللوديين الحيويين اليمينيين. على أن الأسس الأخلاقية المبني عليها تحريم بحوث الخلايا الجذعية هي أنها تؤخذ من أجنة الأنابيب أو الإجهاض, حيث يرى المانعون أنها قد تشجع على الإجهاض أو التجارة بالأجنة( ). ومن المتحمسين للحظر فوكوياما, الذي يُعد من اليمينيين الجدد ((Neo con)Neoconservative), رغم أنه من المروجين للتقنية, ولكنه غيّر موقفه مؤخرا بالنسبة لسياسة اليمين المتطرف( ) .
ومما يدخل تحت مسمى الصدمات الحضارية, أو المواقف الأخلاقية من التقنية ما يعرف بـ (الكائنات المعدلة وراثياً).
فإنه بناء على مبدأ الحيطة (Precautionary Principle)حظرت دول الاتحاد الأوروبي المنتجات الزراعية القائمة على الهندسة الوراثية, أو الكائنات المعدلة وراثيا (GMO) (Genetically Modified Organisms), مما أغضب منتجي الذرة الأمريكيين, حيث يضع الاتحاد الأوروبي مسؤولية سلامة المنتجات المعدلة وراثيا على عاتق المورد؛ رغم أن الحكومة المستوردة هي التي تتحمل مسؤولية إثبات خطر أي بضاعة مستوردة على المستهلك, ويعزى البعض الحظر على أنه جاء نتيجة حملات لاقت شعبية كبيرة قام بها مصدومون حضارياً أولوديون تقليديون على تقنية الهندسة الوراثية في إنتاج الغلال, غير أن هناك من يؤكد وجود مخاطر للمنتجات الزراعية القائمة على الهندسة الوراثية( ).