عقدة الاستعجال وقانون الإمهال
بقلم سعيد بن ناصر..
استعجال النصر طبيعة بشرية لا يكاد يخلو منها أحد..وحالة نفسية يتزايد حضورها كلما اشتد الظلم وعصفت الحوادث وكثرت الكروب..وقد يكون في بعض الأحيان سلوة للمظلوم وأملا للمقهور وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!
بيد أن هذا الاستعجال قد يتحول إلى يأس وينقلب إلى قنوط عندما يترقب الانسان النصر العاجل فلا يرى إلا ظلما متزايدا..و ينتظر الفرج القريب فلا يشاهد إلا مزيدا من الشدة ؛فيقنط وييأس وينقطع وقد ينكص على عقبيه و يتخلى عن مطالب العزة والكرامة ويرتضي السير مع القطعان المذعنة!! وهنا يقع في شراك الهزيمة ويذعن لمآرب المستبدين الظالمين.
هناك أسباب عديدة لحصول هذه الحالة،لعل من أهمها:
1- أن المصاب بداء القنوط لم يفهم قوانين الصراع بين الحق والباطل والظلم والعدل،تلك القوانين والنواميس التي يمكن رؤيتها بعين البصيرة في كتاب الله المقروء وفي حوادث التاريخ المكتوب،وفي قصص النوازل التي حلت بالأمة المسلمة،أوبالأمم الأخرى التي ناضلت لنيل حقوقها وكافحت لتحصيل كرامتها.
2- النظر في الأمور بعين اللحظة الراهنة وبمقياس الزمن القصير المحدود بعمر معين أو جيل محدد..والحقيقة أن أعمارنا مهما طالت فهي في مقياس الزمن الممتد ليست إلا جزءا يسيرا من أجزاء الثانية التي هي أيضا مجرد جزء يسير من أجزاء الساعة الزمنية الكونية الضخمة الكبيرة الممتدة في المستقبل المتناهي في الاستقبال إلى آماد لايعلم وقت انتهائها إلا خالقها سبحانه وتعالى..ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة عندما استبطأوا النصر،”ولكنكم قوم تستعجلون”!! قال ذلك لإيمانه الكامل أن كل الأمور بيد الله وحده هو الذي يصرّف الأمور بحكمته،ويدبر الأحوال بقدرته، مع يقينه –عليه الصلاة والسلام- بأن الظفر قادم و إيقانه أن النصر آت،وإدراكه أن زمن ذلك قد يطول ومدته قد تمتد كما طالت على مؤمنين من قبل أوذوا ونشروا بالمناشير وحُرّقوا في الأخدود،وتكالب عليهم الجنود،ثم كانت الدائرة على الظالمين بعد إمهال من الله لهم ليهلكهم بأفعالهم ويهدم صروحهم بأعمالهم (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين)
3- ان المستعجل لم يتأمل بدقة مظاهر قانون النمو في الأحياء حوله،في الشجر المعمّر الذي كان بذرة بحجم البنان ثم تدرج في النماء سنين طويلة؛حتى أينع وأثمر..وكذلك النهر الذي شق مجراه كان أول أمره ماء قليلا منساحا على وجه الأرض حتى صار نهيرا ثم تعمق أخدوده فغدا نهرا عظيما يحمل الجواري المنشآت كالأعلام،وتعيش في ضفافه الحياة والأحياء.
4- هناك “قانون التنظيف” الكوني الذي جعله الله في الأرض ليكنس من فوقها الأشياء التي لا حياة فيها ولا نفع منها،كالشجر اليابس والأوراق المتساقطة،والجيف وغير ذلك من المحسوسات،وهو ناموس مضطرد مستمر طويل الأمد،وهو ناموس فاعل ومستمر يصدق في الأحياء كما يصدق في الأشياء،فالظلم والبغي والجور والنفاق ونحوها هي في حقيقتها المعنوية من صنف الخُشُب المسنّدة والجيف المتعفنة،وسيطالها قانون التنظيف الكوني على آماد مختلفة قد تطول وقد تقصر،ومن نظر في تاريخ الأمم الظالمة والدول الجائرة والحكومات الباغية وجد أن الله أزالها بجنس أفعالها،ونظّف وجه الأرض منها بواسطة تصرفاتها،حالها كحال الانسان المعافى القوي يجلس مرتاحا مسترخيا كسولا فتتراخى قواه،ويكرع الخمر فتتليف كبده ،ويأكل الدهون ويشرب الدخان فتتصلب شرايينه،وهكذا يعيش فيما يظنه من المتع وهو في الحقيقة كلما زاد من هذه الأعمال تمكن منه الداء،ويراه الرائي كأنما ليس به بأس،حتى إذا استحكم منه المرض هلك بعد تعلّل أومات فجأة..ونظير هذا ينطبق على الأمم والدول، يراها الرائي قوية متمكنة مسيطرة جبارة وهي تكرع خمر الظلم وتقتات جثث القتلى وتطرب لآهات الأسرى وتلهو بالمال والثروة،فتهدم نفسها بنفسها،ويعمل قانون التنظيف الكوني عمله فيها كما يعمله في آحاد الأجساد،فتمرض،وكلما مارست تلك الأعمال الغاوية زاد مرضها،فتتليف كبد السلطة بخمر الاستبداد،وتتصلب شرايينها بأغذية الفساد، وتمتلئ رئتها بملوثات الجور،وينسدُّ قلبها بإرادة الانتقام ومشاعر الكبر والعناد،وقد تبقى على هذا الحال مدة تعاني من الأمراض وتحاول معالجة الداء بالداء،حتى يدركها الهلاك كما أدرك عاد الأولى وثمود فما أبقى،وقد يأتيها الهلاك فجأة كما تأتي بعض الناس السكتة والذبحة والجلطة،وهنا يقع “قانون البغتة”..الذي يوقعه الله متى شاء على من شاء (قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يُهلكُ الا القوم الظالمون)
كل ذلك حاصل للظلمة والطغاة والجائرين لامحالة،لكن متى ذلك؟ وفي وقت يحصل؟ وفي أي زمن يتحقق؟ هذا هو السؤال الذي عجز عن إدراك ناموسه المستعجلون،وتحيّر أمام ضغطه الراهن المتحيرون، وتعطل إزاء الجهل بإجابته يائسون، وتجبر بسبب طول أمد وقوعه المتجبرون،وأجاب عنه القرآن بوضوح بيان وقوة برهان (قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ماعندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين،قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين)
وكما يغتر ويتضرر الظالم بالإمهال،فقد ييأس ويتضرر المظلوم بالاستعجال (خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون)
وتدبير الله عظيم له أسراره وآثاره، وكيده متين قوي بليغ، وحكمته كائنة، ومشيئته نافذة (وأملي لهم إن كيدي متين) وما البشر وحضاراتهم وأممهم ودولهم وصراعاتهم إلا هباءة في في الملكوت الكبير(فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون)