موقف الاصطفاء

هو الموقف الذي لا يندرج تحت التأثر بالصدمة, وإنما حَسُن إيراده هنا لأنه هو الموقف الذي يمكن أن توزن به المواقف المتطرفة (الارتمائية) و(الانكفائية), وهو الموقف الذي يمثل الحصيلة الناضجة بعد التجارب الخاسرة التي مرت بها الأمة من جراء ذوبان أهل الإذعان والتبعية, وجمود أهل التعصب والرفض المطلق.

كان هذا الموقف موجودا من قديم, منذ بداية الاحتكاك بالغرب, ثم مع احتلال الاستعمار للعالم الإسلامي, وحاول أصحابه أن يقدموا استجابة إسلامية واعية لظواهر التحديث والاستعمار والممانعة السليمة والتبعية, ولكن خطاب المتطرفين من المذعنين والممانعين كان هو الأظهر, واستمر وجود الخطاب الوسطي المنصف الواعي ،وإن كان مهمشاً، ولكن معالمه بدأت تتضح تدريجيا في عدة بلدان، وخاصة في مصر وشبه القارة الهندية في فترة العشرينيات الميلادية ثم الأربعينيات, ولم تأتِ فترة الستينيات إلا وقد أصبح هذا الخطاب منتشرا في معظم بلدان العالم الإسلامي, رغم ما واجهه من حروب إعلامية وثقافية وأمنية وسياسية, التي كانت -رغم فظاعة وشناعة كثير منها- سببا في رسوخ وانتشار هذا الخطاب, وأعني خطاب الاصطفاء الواعي، بعيدا عن أية تسميات دعوية أو حزبية؛ لأن الخطاب وصل تأثيره حتى إلى بعض الإسلاميين الذين لهم كانت مواقف مناوئة أو على الأقل متحفظة إزاء الدعوات والشخصيات التي اضطلعت بدور كبير في نشر هذا الخطاب وتثبيته ورسم معالمه وترسيخ بنيانه في كل المجالات المتاحة.

ومن الأمور التي ميزت هذا الخطاب الجديد عن المحاولات السابقة التي كانت بمثابة بذور أو جذور له؛ أن الخطاب الجديد الواعي تحول من كونه خطاب نخبة إلى خطاب جماهري استجابت له الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها ورأت رأي العين أن خطاب الارتماء والانكفاء ليس فيهما سوى الخسارة الصلعاء.

وأدركت من خلال واقع الحال أن عمليات التحديث المعلنة المصطبغة بقيم الغرب لم يكن فيها خير ولا نفع, وأن جوهرها هو التغريب الذي يهدف إلى سلب الموروث الديني والثقافي والأخلاقي, بلا مقابل نافع, بل بمزيد من الخسائر والهيمنة الغربية المباشرة وغير المباشرة.

فلما انتشر الخطاب الإسلامي الجديد الأصيل الواعي استقبلته معظم الجماهير بالترحيب ؛لأنه سلم من التناقض، فهو يدعوها إلى التمسك بدينها والأخذ بمقتضيات العصر, فكان ذلك سراً من أسرار نجاح هذا الخطاب جماهيريا؛ لأن الجماهير المسلمة – في الجملة – تحاول التمسك والتشبث بالإسلام فهي تعرفه جيدا وتحبه كثيرا وتثق به, وتعلم أنه هو المحدد الأول للهوية, ولأمور أخرى مهمة.
ومما تميز به هذا الخطاب – في المجال العملي – أنه أدرك أهمية وخطورة السياسة كممارسة, إضافة إلى أن كون الدين الإسلامي دين عقيدة وشريعة ونظام حياة قد أعطى هذا المجال دافعية كبرى في مواجهة التيارات المنادية بفصل الدين عن السياسة اقتداء بأساتذتهم الغربيين, وتمكن الخطاب الإسلامي الجديد من مقارعة العلمانية والتغريب على مستوى الفكر والممارسة أيضا, متجاوزين به مرحلة كاد أن ينحصر فيها المجال السياسي للتيار التغريبي أو الجهات الخاضعة للهيمنة الغربية أو ما يعرف بالامبريالية.

ومما تميز به هذا الخطاب التوغل في الجانب الفكري, بعد أن كان الخطاب القديم يكاد يكون محصورا في العلوم الشرعية المتخصصة, ولكن تدفق العلوم المعاصرة وقوة تأثيرها أوجب أن يكون هناك عناية بالجوانب الفكرية على مستوى العلوم الإنسانية أو غيرها،فتكوّن الخطاب من أصالة منهجية تراثية متينة،ومعاصرة فكرية مميٍّزة، وبذلك تمكن الخطاب من صناعة (موقف الاصطفاء) إضافة إلى عوامل أخرى.

وهكذا تكونت المنهجية الواعية لخطاب الاصطفاء, بناء على مرجعية ثابتة وصحيحة وخطاب فكري مُدرِك, وخطاب جماهيري مقنع, وممارسة عملية سياسية واقتصادية و تقنية وغير ذلك من المكونات. هذه المنهجية وعيًا وممارسةً تؤكد مبدأ التفريق بين مقتضيات العصر وأهوائه.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى