موقف الانكفاء

وهو الموقف الذي يعبر عن الصدمة المعاكسة حيث يتسم أصحاب هذا الموقف بالسلبية والانسحاب, إما برفض الحضارة ومعطياتها وثمراتها والوقوف منها موقف المعارض الثائر, أو موقف المعتزل الحائر.
إن أصحاب هذا الموقف الإنكفائي يشبهون أصحاب الموقف الارتمائي من جهة أنهم جميعا صدموا بالحضارة الغربية, ونظروا إليها نظرة كلية واحدة لا تقبل التجزئة ولا التبعيض.
فقسم دُهش بالعلوم الطبيعية والمكتشفات والمنتجات التقنية وأدوات القوة والغلبة العسكرية السياسية وغيرها فتقرر عنده أنه لا يمكن استجلاب ذلك إلا بأخذ ما لدى الغرب من مناهج ونظم حياة وفلسفات وقيم وإخضاع الإسلام للمعايير والضوابط والمناهج الغربية, وجعلها مقياسا وحيدا للتقدم والتحضر, ومعيارا للحكم على الواقع والتاريخ.
والقسم الثاني فزع من المفاسد والانحرافات الاعتقادية والفكرية والأخلاقية, أو استصحب حالات عدائهم التاريخي للأمة؛ فتقرر عنده أن هؤلاء القوم لا خير يرتجى منهم ولا نفع, وأن ما يصدر عنهم من منتجات وتقنيات وعلوم تجريبية يؤخذ أولا على جانب الشك والارتياب حتى وإن ثبتت براءته, أو كان هو في ذاته علما محايداً أو ثمرة محايدة!!
كلتا الطائفتين لم تنصف ولم تتخذ موقفا معتدلا, ولذلك أمكن وصف الأولى بأنها نتاج صدمة, والثانية نتاج معاكس للصدمة, يتمثل في عدة ممارسات, يمكن وصفها بالمقاومة السلبية والصراع المنفعل, والمغالبة في غير موضعها, والتعصب غير الحميد, والممانعة غير المستبصرة.
ووصف الصدمة هنا أو هناك بوصفها علّة أو نتيجة لعلة أخرى؛ كل ذلك يأتي في سياق تفسير الحالة وليس تسويغها, على أنه ينبغي التفريق بين الفئتين من حيث صدق الانتماء للأمة وحقيقة الاعتناق للهوية والحضارة والتاريخ؛ فهناك بون هائل بين الطائفتين, ولكن ذلك لا يعني أن موقف المنتمي لهويته وأمته هو بالضرورة صحيح, فكم من صادق المقصد حسن النية يقع – من حيث لا يعلم – في أخطاء لا تسوّغها النية الحسنة ولا القصد الحسن, وإن كانت تشفع له في بعض الجوانب, بخلاف من جمع بين المضادة للهوية والأمة والتبعية لأعدائها؛ فإن فعله أشنع وتوجهه أخطر على كيان الأمة وقِوام الملة؛ لتضمنه مفاهيم انفصال واغتراب, تغذيها مفاهيم إذعان واندماج وانصهار واصطفاف في خندق أثبت التاريخ والواقع أن أصحابه يتعاملون مع الأمة الإسلامية ودينها تعامل المبغض الحانق أو الخائف الواجف,فهاهو فولتير الموصوف بأنه فيلسوف الليبرالية وشاعر الحرية, لم يغادر منطقة العداء للإسلام, حتى قال أحد المفكرين الغربيين (إن من أبرز الحقائق … أن الفيلسوف والشاعر الفرنسيفولتير, وهو ألد أعداء النصرانية في القرن الثامن عشر, كان في الوقت نفسه مبغضا مغاليا للإسلام ولرسول الإسلام).
على أنه ينبغي أن يعرف أن أصحاب الانكفاء هؤلاء كان لهم وجود مؤثر سلبا، وخاصة في بداية الاحتكاك مع الغرب, ثم تقلص أثرهم ووجودهم مع الزمن, ولعل السبب هو أنهم كانوا في حالة انغلاق وفجأة جاءهم ما يجهلون, والإنسان عادة عدو ما يجهل! فكيف إذا فوجئ بما يجهله؟ فكيف إذا كان هذا الذي يجهله جاء على يد عدو له تاريخ عدائي طويل؟
فكيف إذا أضيف إلى كل ذلك أن فئة المقلدين للغرب استبسلوا في التبعية إلى درجة التقليد الأعمى للحياة الغربية, والتأثر المميت لخصائص ومقومات الأمة الإسلامية؟
إن هذه التبعية المتطرفة وما نتج عنها من ممارسات وأعمال وأخلاق قام ببثها المقلدون للغرب, هذا أيضا أسهم بشكل مباشر في نفور بعض المسلمين أو انكفائهم, أو حذرهم الذي كان يزداد مع ازدياد وتيرة الغلو الإذعاني الذي يمارسه المُستَلبون.
وقد فطن أحد المفكرين الغربيين بعد أن شرح الله صدره للإسلام فسجل هذه الظاهرة في جانبيها قائلا: (إن تقليد المسلمين – سواء كان فرديا أم اجماعيا– لطريقة الحياة الغربية لهو بلا ريب أعظم الأخطار التي تستهدف لها الحضارة الإسلامية. ذلك المرض “ومن الصعب أن نسميه بغير هذا الاسم” يرجع إلى ما قبل بضعة عقود ويتصل بقنوط المسلمين الذي رأوا القوة المادية والتقدم في الغرب, ثم وازنوا بينها وبين الحالة المؤسفة في بيئتهم الخاصة. ولقد كان من جهل المسلمين لتعاليم الإسلام – وذلك راجع في الأكثرية إلى ضيق ناحية التفكير في أولئك الذين نسميهم الفقهاء [وإلى انصراف القادة والزعماء إلى ملاذّهم ومنازعاتهم الشخصية عن خدمة أمتهم وشعوبهم]– أن نشأت الفكرة القائلة بأن المسلمين لا يستطيعون أن يسايروا الرقي الذي نراه في سائر أنحاء العالم ما لم يتقبلوا القواعد الاجتماعية والاقتصادية التي قبلها الغرب, لقد كان العالم الإسلامي زمناً مّا راكداً: فقفز كثيرون من المسلمين إلى الاستنتاج السطحي الخالص من أن النظام الإسلامي في الاجتماع والاقتصاد لا يتفق مع مقتضيات التقدم, فيجب من أجل ذلك أن يحوّر حسب الأسس الغربية. هؤلاء الناس “المتنورون” لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مدى التبعية التي يتحملها الإسلام, على أنه عقيدة, في تأخر المسلمين, ثم إنه لم يتح لهم أنيروا موقف الإسلام الحقيقي, أي كما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية, ولكنهم اكتفوا من ذلك كله بأن رأوا أن تعاليم فقهائهم المعاصرين كانت سدا منيعا في وجه الرقي ووجه التقدم المادي, ثم إنهم بدلا من أن يولوا أبصارهم نحو المصادر الأصلية في الإسلام اعتبروا ضمنا أن الشريعة والفقه المتحجر في أيامنا هذه شيء واحد, وقد وجدوا أن الشيء الثاني ناقص من عدة وجوه ففقدوا بالتالي كل اهتمام عملي بالشريعة وأحالوها إلى حقل التاريخ والمعرفة المدفونة في الكتب. ثم بدا لهم أن تقليد المدنية الغربية هو المخرج الوحيد من ورطة الانحلال الإسلامي. [أما التبعية في ما وصل إليه المسلمون من تأخر فتقع على عاتق العلماء والشباب المثقفين, وعلى عاتق القادة الذي يتاجرون بالدين وبالبلاد, وليس لأحد من هؤلاء أن يتنصل من هذه التبعة, فكلهم مسؤولون عن تأخر المسلمين الاقتصادي والسياسي والعلمي في كل مكان] ثم يستطرد في بيان أثر التقليد على ذوق الإنسان وميوله وفكره, ويذكر أثر التشبّه في الملبس وأنه لا مفر من أن يصطبغ المتشبه بالمدنية التي يتشبه بها ويقلدها, ثم يضيف قائلا: (إذا حاكى المسلم أوروبة في لباسها وعاداتها وأسلوب حياتها فإنه يتكشّف عن أنه يؤثر المدنية الأوروبية, مهما كانت دعواه التي يعلنها. وأنه لمن المستحيل عمليا أن تقلد مدنيّة أجنبية في مقاصدها العقلية والبديعية من غير إعجاب بروحها, وأنه لمن المستحيل أن تُعجَب بروح مدنية مناهضة للتوجيه الديني – وتبقى مع ذلك مسلما صحيحا.
إن الميل إلى تقليد التمديُن الأجنبي نتيجة الشعور بالنقص ،هذا- ولا شيء سواه- ما يصاب به المسلمون الذي يقلدون المدنية الغربية. أنهم يفاضلون بين قوتها ومقدرتها الفنية ومظهرها البراق وبين البؤس المحزن الذي ألمّ بالعالم الإسلامي, ثم يأخذون في الاعتقاد بأنه ليس في أيامنا هذه من سبيل إلا سبيل الغرب. وإنك لترى لوم الإسلام على تقصيرنا نحن زيًّا شائعا بيننا اليوم. وأما في أفضل الأحوال فإن أولئك الذين نسميهم عقلاء من بيننا يتخذون موقفا اعتذاريا ويحاولون أن يقنعوا أنفسهم ويقنعوا الآخرين بأن الإسلام يمكنه بسهولة أن يتشرب روح المدنية الغربية.
وكيفما يستطيع المسلم إحياء الإسلام يجب أن يعيش عالي الرأس, يجب عليه أن يتحقق أنه مميز, وأنه مختلف عن سائر الناس, وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك. ويجب عليه أن يكدّ ليحتفظ بهذا الفارق على أنه صفة غالبة وأن يعلن هذا الفارق على الناس بشجاعة بدلا من أن يعتذر عنه بينما هو يحاول أن يذوب في مناطق ثقافية أُخر.
يجب أن لا يُفهم من كل ما سبق أنه تسويغ لحالة الركود والجمود والسلبية التي لفت الفئة المنكفئة ولكنه تفسير لأسباب تلك الحالة التي كان لأصحابها جناية على الأمة, شعروا بذلك أو لم يشعروا, على أنه قد وُجد في كل الفترات من العلماء والمفكرين والقادة من بذل جهده في مقاومة هذه السلبية بالانطلاق من هوية الأمة وحضارتها نحو الأخذ بأسباب المدنية, على عكس أولئك الذين قاوموا الركود والجمود بالانطلاق بعيدا عن تلك الهوية وتلك الحضارة, بل أحيانا بالمعاداة والمضادة لها عن سبق قصد وتصميم !!, وقد مضى شواهد لذلك.
إن من المهم أيضا في هذا الصدد أن ندرس هذا الخطاب باعتباره خطابا متحركا له عدة أبعاد, وليس خطابا واحدا ذا بعد واحد, بل الحقيقة أنه قد تفاوتت مستوياته من زمان لآخر, من فترة ما قبل الاستعمار إلى زمننا هذا،مرورا بفترة بدايات الصحوة الإسلامية, ثم فترة اليسار والقومية, ثم فترة الصحوة الإسلامية الممتدة, ثم فترة التمدد الليبرالي ما بعد أحداث11 سبتمبر, ثم فترة ما يعرف اليوم بالربيع العربي. فلكل فترة من هذه الفترات آثارها وبصماتها على هذا الخطاب وغيره, فعلى سبيل المثال في فترة البدايات الأولى كانت هناك مواقف انكفائية من بعض علماء الدولة العثمانية من عدة أمور كالطباعة الحديثة والمطابع الآلية, ثم جاءت فترة في بلدان أخرى وقف بعضهم ضد آلات المراسلات الآلية كالبرقيات والهواتف, ثم الموقف من المذياع والتلفاز, ثم الموقف من القنوات الفضائية, وكذلك الموقف من علوم تطبيقية كالعلوم والفيزياء ثم من علوم نظرية كالجغرافيا, ثم من علوم إنسانية كعلم النفس ،وحتى في الآونة الأخيرة وُجد من يعترض او يتحفّظ على بعض الدراسات الإنسانية وما انبثق منها كعلم الاجتماع وعلم النفس وفنون إدارة الذات, كالبرمجة اللغوية العصبية المعروفة اختصارا باسم NLP حيث وُجد من يصفها بأنها كلها عبارة عن انحراف اعتقادي، وهكذا دواليك, ولكن الأمور لا تفتأ تهدأ, ويخرج المعارضون من حالة الاعتراض الكلي المتطرف وغير الموضوعي إلى حالة صمت ثم تقبَّل.
وفي كل المراحل لا بد من وجود من يبين الصواب ويكشف اللبس, ويميز بين ما يقبل وما يرد من العلماء والمفكرين الذين ينعمون بصدق انتمائهم لأمتهم،وعمق وعيهم وإدراكهم, كما أنه في كل المراحل لا بد من وجود أناس يتخذون هذه الاعتراضات من المنكفئين حجة لهم يقذفونها في وجه أي إصلاح أو اصطفاء يقوم على أساس الدين والقيم. ويتمثل هذا الموقف المتجانف في أشخاص من القسم الأول, أي من أهل الارتماء, أو ممن تأثر بهم, فلا تكاد تسمع منهم إلا حديثا موجها بنوع من العدائية والنظرة السلبية المجحفة التي لا ترى في أي خطاب إسلامي إلا لوناً واحداً ومستوى واحداًيضعون له عنوانا واحدا هو: (ثقافة الانغلاق والتعصب والكراهية والممانعة والصدام) إلى غير ذلك من الألفاظ الهجائية والمصطلحات التنفيرية, وربما كان أمثلهم طريقة من يستعمل طريقة أخرى ليُظهر إنصافاً مزيفاً وموضوعية مصطنعة فيصنف مجمل الخطاب الإسلامي على درجتين إحداها الخطاب المنغلق والأخرى الخطاب الأشد انغلاقا( ), أو خطاب العنف ضد الآخر, على قاعدة من لم يمارس عنفه فقد نوى!!
ونجد في المقابل من العلماء الأجلاء والمفكرين الأصلاء من انتقد (الانكفاء) وبين مدى مخالفته للإسلام, ولمقتضيات الحياة الصحيحة والمصالح الحقيقية والمنافع المؤكدة, مع تمييز ناضج, فيه ما يؤخذ وما يرد من الحضارة الغربية التي صدمت أناسا فذابوا, وصدمت آخرين فجمدوا( )، وعلى كل حال (فإنه لا غنى لنا عن الإشارة إلى ملاحظة مهمة ينبغي أن توضع في موضعها الصحيح وهي:أن الهروب من المشكلات لاينفيوقوعها،ثم إن محاولة العزلة لا يقصي أبداً تسرب هذه التيارات إلينا00بلْهَ إن العزلة نفسها ليست ممكنة في هذا العصرالذي تلاقت الأمم فيه بوسائل كثيرة من الاتصال،والذي أصبحت التيارات الثقافية فيه كالتيارات الهوائية على حد سواء،أضف إلى ذلك أن هذا العصر قد فرض علينا أن نتلاقى مع غيرنا من الأمم والشعوب في عدد من ساحات العمل المشترك،بتأثير مقتضيات دولية وإنسانية وشؤون حيوية كبرى تخص وجودنا وقضايانا نفسها،ثم إن فترة الانطواء التي جرت في العالم الإسلامي حقبة قصيرة من الزمن،لم تكن فترة خصب وازدهار، وإن كانت فترة تماسك وصمود لايوصف بالقوة والحركة إن لم يوسم بالضعف والجمود، ولكن لم يكن ينتظر لها أن تستمر وتطول، إزاء حدة ما يحيط بها من عواصف عاتية وتيارات شديدة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى