الإنسان كائن ذاتي واجتماعي
ليس هناك اختراع لفكرة جديدة في هذا العنوان, فهو من الأمور المعروفة والمسلَّم بها؛ فالإنسان يحمل في تكوينه الفردي والاجتماعي مثل الذي يحمله في تكوينه العضوي, المكون من مجموع من الخلايا، حيث تعمل كل خلية منها في اتجاهها المنفرد، وتقوم بدورها الوظيفي الخاص بها وفق التسخير الرباني, وهذا يشبه الذاتية الفردية في كيان المجتمع, ومع ذلك فإن آحاد الخلايا لا تعمل بمفردها، بل مع مجموع الخلايا التي يتكون من مجموعها الشخص المعين, وهذا العمل المجتَمِع والمتداخل بين الخلايا المفردة يمثل الصفة الاجتماعية في الإنسان، بوصفه عضوا في جماعة، وهو مع ذلك له في المجتمع والأمة حياة خاصة, قصيرة ومحدودة, هي حياته الذاتيةالتي متى تجاوزت حدها تحولت إلى أنانية مؤذية, كما لو تضخمت خلية من خلايا الجسم وتعاظم شأنها على حساب الخلايا الأخرى،أوعلى حساب الانسجام الصحي العام؛ فتحدث حينئذ الأورام المدمرة للخلية ذاتها، وقد تدمر الصحة العامة للجسم كله ما لم تستدرك وتعالج لتعود إلى وضعها الطبيعي.
وللفرد في المجتمع أيضًا حياة عامة هي أوسع مدىً وأطول عمرًا من حياته الذاتية, وهذه الحياة العامة هي حياته الاجتماعية على مستوى الأسرة فالعشيرة فالوطن فالأمة فالعالم كله.
هناك أشياء عديدة مشتركة ومتداخلة ما بين هذين الخطين المتقابلين في الإنسان (الفردية والاجتماعية) لعل من أظهرها على صعيد الأمة التي ينتمي إليها الفرد أوالمجتمع الخاص به، أنه وليد ذلك المجتمع وتلك الأمة، وهو في الوقت ذاته عامل من عوامل التأثير الإيجابي والسلبي فيها, وإن كان فيمعظم الأحوال تابعًا لها يتأثر بها, كتأثر الخلية الجسدية المفردة بالصحة العامة للجسد أوالمرض الساري فيه.
وتبقى قضية (فردية) الإنسان و(اجتماعيته) من أهم القضايا المتعلقة بالانتماء والهوية والتأثر والتأثير, والسلبية والإيجابية وأنواع السلوك المختلفة, وأصناف الممارسات المتنوعة التي تناولتها الدراسات الفلسفية والنفسية والاجتماعية والتربوية, وتتعلق بها قضايا التعليم والثقافة, والسياسة والجريمة, والبناء العام للدولة والأمة, وتتمحور حولها -ومعها غيرها من العوامل الأخرى- قضايا الصراع وصناعة المستقبل, والانتماءات المختلفة، وغير ذلك.
الجانب الاجتماعي في الإنسان له مظاهر عديدة منظورة في واقع حياة الإنسان، وتدخل تحت مسمى (الاجتماعيات) الهادفة إلى دراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية بطريقة معرفية أوإحصائية،
استنادًا إلى النظر في المجتمعات الإنسانية وقوانين تركيبها وتطورها ومقدار أدائها ومدى ثباتها أوتغيرها, وتتفرع الاجتماعيات إلى عدة فروع متخصصة، منها على سبيل المثال: علم الاجتماع التطبيقي والتربوي والتاريخي والصناعي والطبي والمهني والسياسي والريفي والحضري، والتنظيم والعمل والأديان والآداب والاقتصاد والحقوق والعائلة وغير ذلك.
وللجانب الاجتماعي أيضًا جوانب مضمرة في أعماق الإنسان, لها أبلغ الأثر في السلوك الفردي والجماعي، إنها الدائرة الكامنة في داخل الإنسان والتي منها ينبثق كثير من أنواع الاجتماعيات المذكورة, هذه الدائرة المضمرة تتكون من السياق الاجتماعي, ومن التجارب اليومية التي تحدث من خلال التفاعلات الاجتماعية المختلفة ويتعلق بها البعد الخفي لسلوك الإنسان استقامةً أو جنوحًا, وتفاعلا أوانزواءً, وتأثيرًا أو مسايرةً, ومن منظور أكثر شمولا تتعلق بالمصادر المعرفية الروحية والأخلاقية العامة التي تشكل الواقع الاجتماعي.
إن الإنسان في تمازجه المتشابك ما بين فرديته واجتماعيته يُشكل -غالبًا- لذاته شخصية معينة، ويحدد مواقفه من قضايا عديدة بناءً على هذا التشكل, فهو في البدايات يمارس المحاكاة الأسرية والاجتماعية, ثم تكون له رؤية للواقع المحيط وكأنه في حالة انفصال عنه، ثم مع استمراره في تواصله الاجتماعي يتكون لديه إدراك للتعامل مع المواقف من ناحية كلية في الأغلب، ويصبح وكأنه في حالة اندماج فيه مع استشعار للماضي واستشراف للمستقبل وفق التكوينات التي عاشها ويعيشها, ثم يصمم لنفسه نماذج مصغرة من خلال التفاعل الاجتماعي والمضامين المضمرة في ذاته ليمارس عند ذاك ومعه وبعده تنفيذ ذلك وتجسيده في سياق النظام الاجتماعي العام، مع الأخذ في الاعتبار أن هذه التراتبيةليست حتمية، وليست بالضرورة متعاقبة، بل هي في الأغلب متداخلة متشابكة متحركة بحكم طبيعة الإنسان، التي يصعب تأطيرها في أطر محددة؛ لأن الإنسان,سواء في حالته الفردية أو الاجتماعية, عصي على التأطير، والنمذجة المحددة التي تظن بعض الدراسات النفسية والاجتماعية أنها حقائق حتمية لا يمكن الانفكاك عنها, كما يدعيأصحاب علم الاجتماع التطبيقي على سبيل المثال ، بيد أنه يمكن من خلال إدراك هذه الأمور أن نفسر حالات الصدمة والتحول، والانقلاب في بعض الشخصيات وخاصة الشابة منها, التي ما إن تحدث لها هذه الحالة حتى تعود من جديدإلى المحاكاة التي تثمر رؤية معينة يتكون منها نموذج مصغر يفضي إلى التنفيذ.