مجلة (الإسلام اليوم) في حوار موسع مع الشيخ الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي

في هذا الحوار الموسع مع الشيخ الدكتور سعيد بن ناصر الغامدي، الشخصية السعودية  في جوانب الفكر والدعوة، نتجول في المحطات الرئيسة التي شكلت وعيه ووعي مجاييله من الدعاة والعلماء، كما نستعرض جانباً من آرائه حيال القضايا المهمة التي تواجه الصحوة الإسلامية الآن والاتهامات التي تُوجّه إليها، ومستقبلها، وعن التكوينات الإسلامية التي كانت منتشرة في المملكة خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي لا يكاد المتابع العادي يعرف عن مصيرها شيئاً.
ومع أن الحوار كان غرضه الأساس هو التجوّل في التكوين المعرفي للشيخ سعيد بن ناصر إلاّ أن ذلك قادنا بشكل أو بآخر إلى محطات أخرى، رأينا أنه من المناسب أن يكون القارئ على علم بها وهو يطالع هذا الحوار.
 ما بين “بلجرشي” وأبها والرياض.. كيف كانت الرحلة مع التعليم وتكوين الذات؟
مشيناها خطى كُتبت علينا، ذهبت متاعبها، وأرجو أنه بقيت آثارها الجيدة ومكاسبها، و بكل حال فقد أفادت تجاربها، ومما أفادته: أن من يتعب لإعداد نفسه صغيراً يرتاح كبيراً، وأن ما ضاع من وقت في غير بناء الذات يبقى حسرة ولو ذهب في المتع واللذات. لقد كانت رحلة جيلي شاقه بالنسبة لرفاهية التعلم اليوم، ولكنها مشقة تقوّي الشخصية، وتسرّع بالنضج، وتعلّم العصامية.
 كيف ترى تأثير النشأة في “بلجرشي” على شخصية سعيد بن ناصر الحالية واختياراته المستقبلية؟
وُلدت في بلجرشي، وتفتحت عين التمييز في المدينة النبوية حتى جاوزت العاشرة من العمر، ثم عدت إلى بلجرشي، ثم بعد ثلاث سنوات انتقلت إلى الباحة، ثم بعد الثانوية انتقلت إلى أبها، ومكثت فيها خمساً وعشرين سنة، ولكل بلد بصمته في الشخصية، ولكل مجتمع من تلك المجتمعات سمة تخصه لابد أنها وضعت في قرارة النفس بذوراً؛ ففي المدينة رواء الروح وعبق الروضة وصبا العوالي وقباء، ومجالس ومنازل أشياخ والدي رحمهم الله جميعاً، وخاصة الشيخ ابن باز، وتنوّع البشر، وفي جبال السروات جاءت نشأة أخرى، حيث تنتصب الجبال شامخة ومنازل الآباء والأجداد القوية المنيعة الرافعة قاماتها فوق قمم الجبال بوضوح وثبات توحي بمعانٍ منها معاني الإباء والكرامة والعزة والشموخ وعدم التلون والتقلّب والتبدّل، إضافة إلى المجتمع المكتنز بهذه المعاني، كل ذلك كان له من الآثار الشعورية وغير الشعورية في الشخصية والاختيارات المستقبلية، مع إيماني بأن الله وهب الإنسان قدرة على الاختيار والتمييز تمكّنه-إن أدرك- من استبقاء ما يريد وإلغاء ما لا يريد، وربما كان البعض ذاهلاً أو عاجزًا عن هذا المقدار.
 “جنوب المملكة” أخرجت للسعودية العديد من الشخصيات  في مسيرة الصحوة الإسلامية.. هل من علاقة بين “المناخ” هناك وتكوين مزاج ديني معتدل عند شبابه؟
     الجنوب فيه السهول الشرقية وأهلها أقرب طباعاً ولهجة بنجد وما صاقبها، وفيه الهضاب والسهول الغربية حيث الطيبة والسماحة والندى، وفيه جبال السروات حيث القوة والعزيمة والجد. الجنوب فيه تنوّع وثراء في البيئة والطقس، فلا تسلْ عن الربيع ونوّاره، والشتاء وضبابه وأمطاره، والحقول ومحاصيلها، والجبال وأشجارها وظلالها، والصيف الجميل وأمطاره السريعة الغزيرة!!
     كل ذلك له أثر في تكوين أمزجة الناس وأسلوب نظرتهم للحياة والأحياء، ولولا مخافة الانزلاق في تصنيفات قد تُفهم خطأ لقلت: انظر إلى أناقة وجمال القبيلة الفلانية وملاحة وظرف القبيلة الفلانية وحكمة ودهاء القبيلة الفلانية، وللناظر في هذه الزوايا (المزاج العام) أو (السيكيلوجية العامة) أن يتأمل أشعار القوم التي تفيض رقة وتنساب بهاء في مواطن، وتلتهب عزة وشموخاً في مواطن، وتتعالى إباء وثباتاً في مواطن، ولا ريب أن الدعاة في هذه المناطق جزء من بيئتهم المادية والاجتماعية التي نشؤوا فيها0
 الدراسة الابتدائية كانت في “المدرسة السلفية” في “بلجرشي”، هل كانت صدفة أن تدرس في مكان يشير اسمه إلى هوية معينة قُدّر لك مستقبلاً أن تتقاطع معها، أم كان هناك وعي لدى والديك بأهمية أن تدرس في مدرسة كهذه؟
أولاً السلفية(منهجاً) كانت هي منهج الدولة منذ نشأتها الأولى، وكانت موئلاً للأكثرية ومفخرة لهم، ولم يحصل أن أصبحت السلفية مذمة أو خطراً إلاّ في الآونة الأخيرة عند بعض الناس الجاهلين بها أو الخائفين منها أو المبغضين لها، أو المتحيزين ضدّها، جمعتهم الجهالة والمخاوف والبغضاء والتحيز على منابذة السلفية، أقصد السلفية (منهجاً، لا حزباً ولا طائفة)؛ فدراستي في المدرسة السلفية آت في السياق العام الذي كان عليه الدولة والمجتمع، ولم يكن ثمة أدنى معرة أو تشكيك في صحة المنهج القائم على التوحيد الخالص والعبادة الاتباعية، بلا إضافة ولا ابتداع، واليقين بأن صلاح تديّن الناس سبب للنجاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وقد جاء دخولي للمدرسة السلفية لسببين يسيرين:
 الأول: أنها المدرسة التي درس فيها أبي وجدي، ومن المؤكد أنها كوّنت لديهم القناعات العلمية والعملية التي جعلت الوالد يختارها لي0
الثاني: أنها المدرسة الأقرب إلى دارنا في بلجرشي.  
 تخصّصك الدراسي يتقاطع مع اهتماماتك الحالية بشكل كبير.. ألا ترى حاجة إلى إحداث اختلافات بين التخصص والاهتمامات؟
هناك علاقة بين التخصص والاهتمامات، فأرى أن من أسباب الجودة والنجاح التوافق بينهما.
 غالبية السلفيين يُتّهمون بأنهم تمّت أدلجتهم في سنوات الدراسة الأولى، وأنهم أعطوا عقولهم لمن سبقهم دونما محاولات جادّة للبحث والسؤال والاختلاف!! ما مدى صحة ذلك على ضوء تجربتك الشخصية؟ما من إنسان ينشأ على منهج أو في بيئة علمية أو فكرية إلاّ ويحصل له تأثير، وتنغرس فيه قناعات بشكل عميق؛ فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، ودراسته تعلّمه التشيع أو التصوف أو الباطنية أو العلمنة…الخ، وما يُقال عن كون السلفيين يعطون عقولهم لمن سبقهم دون بحث أو سؤال، هذا من جملة الاتهامات التي تكاثرت منذ عهد بوش الابن وتلقّفها كثيرون بتلقائية ومحاكاة، وزاد من تفاقمها علوّ صوت العلمانية والطائفية، وفي الجملة لابد من التفريق بين السلفية منهجاً والسلفيين أشخاصاً؛ لأننا إذا لم نقل بهذا التفريق وقعنا في مأزق اتهام الإسلام بناء على تصرفات بعض المسلمين، و من اطّلع على المناهج والمرجعيات، ونظر بعين الإنصاف وجد أن المنهج السلفي هو: اتباع ما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه علماً وعملاً، ومن مقوّماته الاتباع وعدم الابتداع في الدين أي(إسلام بلا إضافات بشرية)، ويتبع ذلك أنه لا تسليم إلاّ للوحي الثابت، أما ما عداه فهو ليس بدليل، بل في حاجة إلى الدليل، وفي المنهج ذاته حثٌّ على البحث عن الحقيقية ببرهانها، وفيه ما يُعرف به متى يكون السؤال واجباً، ومتى يكون باطلاً، ومتى يكون بغرض التلبيس والتدليس والتشكيك، فضلاً عن تضمنه الإجابة على ذلك (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)، و فيه ضوابط ومعايير الاختلاف الجائز والممنوع، وكيفيه التعامل مع ذلك بالبينة والدليل، ولذلك كان هذا المنهج هو المنهج الوسط بين أطراف الغلوّ والتفريط، وهو شاهد على غيره لوسطيّته الحقة ولقيامه على العلم والعدل، كشهادة الإسلام على غيره من الملل0 ومن أراد أن يحكم على أي منهج فلينظر في مرجعيته أولاً، ومن تأمّل مناهج المنتسبين للإسلام وجدها في الجملة تنقسم إلى عدة اقسام: مرجعية تقوم على النص، ومرجعية تستند إلى النظر والكلام، ومرجعية تستند إلى الذوق والعرفان، ومرجعية تستند إلى الإمامة، ومرجعية تستند إلى الباطن، ومن تأمل هدي الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأتباعهم من أهل القرون الفاضلة المشهود لهم بالخير والإحسان والعلم والفضل وجد أن منهجهم يقوم على النص طاعة لقول الله تعالى: (كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ).
 هل تعتقد أن عقلك تعرض للاغتيال في فترة ما؟
في فترة قليلة أثناء دراستي في الجامعة أوقعني سوء اختياري في السكن مع طلاب من مجرمي الثقافة وقُطّاع الطريق إلى الله، وكان بعضهم مريضاً فكرياً بأفكار ماركسية  يطرحونها على شكل أدب حديث وتساؤلات وبحث، تحت شعار إعمال العقل في شأن صحة وجود الله، وصدق النبوة، وصحة القرآن، وإمكانية البعث والآخرة، ووجود الملائكة، ونحو ذلك من القضايا الكبرى، وكان الطرح مادياً ماركسياً متدثراً بدثار الحداثة أحياناً، ودثار العقلانية والتفكير الحر أحياناً أخرى، ولم أكن قد تعرضت لمثل هذا النوع؛ فأحسست بأن هناك محاولة لاغتيال عقلي وقتل إيماني الفطري الذي نشأت عليه، و على الرغم من الكتب العلمانية والحداثية التي أفاضوا بها عليّ، إلاّ أن الله تداركني بفضله وهدايته، فكنت أقرأ كتبهم، وأطلع على ما كتبه علماء ومفكرو الإسلام، حتى تمكّنت من الخروج من شِراك شبهاتهم، وكان ذلك حافزاً لي لدراسة العقيدة والمذاهب المعاصرة والتعمّق في موضوعات الحداثة والعلمانية ثم الليبرالية أخيراً، ولست أدري لعله لولا إصرار أولئك على زعزعة إيماني بالله والنبوات والوحي لربما اتجهت علمياً إلى دراسة الأدب واللغة؛ لأنها كانت محبوبة لديّ ومرغوبة ومازالت.
 من قاد رحلتك نحو العلم والاشتغال به؟
البذور الأولى لوالدتي حفظها الله، ثم كانت رعاية تلك البذور لوالدي -رحمه الله- فهو شيخي الأول الذي باشر تعليمي وتوجيهي، وربما ساعد في ترسيخ هذا المسار بشكل لا شعوري. اصطحابه لي في مجالس أشياخه: ابن باز، ومحمد الأمين الشنقيطي، وعطية سالم، وعمر فلاته، وعلي سنان، وأبو بكر الجزائري، وحماد الأنصاري عليهم رحمة الله.
وفي المرحلة الابتدائية لا أنسى تشجيع أستاذين لي في مدرسة أسامة بن زيد بالمدينة، أحدهما الأستاذ عوض الحربي، والثاني الأستاذ علي النخلي، وكان من الحي المجاور لنا الذي كان معروفاً بـ(حي النخاولة)، وكانت لديه طرائق تحفيز وتشجيع لا أنساها، ثم في بلجرشي الشيخ محمد بن جماح، وسعد بن حجر، وعلي الحذيفي إمام الحرم ود/ محمد مصطفى البورنو، ومحمد شيخاني من سوريا، ثم في الباحة عبد الله بن عبد الهادي الأجعدي، ود/عبد الرزاق بن حمود الزهراني وله تأثير كبير لا أنساه، ومحمد بن سفر، وعبد الله بن يحيى، وعلي بن حمود العرويان، و على الرغم من أن هذين الاثنين لم يكونا من المدرسين في المعهد العلمي إلاّ أنهما كانا ينطويان على روح تربوية عالية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بأبوتهم الحانية ورعايتهم وطريقة تعاملهم.
أما في الجامعة في أبها فكانت الشخصية الجاذبة والمؤثرة طوال دراستي الجامعية د/ عبد الله المصلح الذي لم يُعط حقه من الذكر والتعريف اللائق به كقامة علمية آسرة في الفصاحة والبيان والتأثير والذكاء والقدرة على سبر الأمور، وكانت كلية الشريعة مليئة بالشخصيات العلمية الكبيرة كالشيخ د/عبد الرحيم الطحان، والشيخ د/يوسف صديق، والشيخ د/محمد علي عثمان، الشيخ د/محمود الحريري، وغيرهم، أما بعد الجامعة ففي الرياض كان الشيخ عبد العزيز الراجحي والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن قعود.
 في رأيك هل يلامس المثقف السعودي هموماً مجتمعية، أم أنه تحوّل إلى نخبوي حتى في خلافاته؟
بعض المثقفين يلامس الهموم الاجتماعية، وبعضهم عبارة عن وكلاء لقطع الغيار الفكري والأخلاقي؛ فهم أصداء لغيرهم، يقرؤون فكرة لمؤلف عربي كان قد استعارها من مفكر غربي، وأعاد صياغتها ليقوم المثقف المحلي بإعادة الصياغة مرة أخرى بأسلوب يناسب الوضع المحلي، وفي الأغلب أن النخبوية تتضاءل اليوم بسبب المحاولة الجادّة لتغيير السمت الاجتماعي العام، وما يصحب ذلك من انحياز إلى توجّه معين وإقصاء لتوجّه آخر، وهذا ما يقتضي بطبيعة الحال الخروج من النخبوية المنفصلة والدخول في معتركات مباشرة.
 التيار الإسلامي في المملكة متهم بأنه وراء تعزيز فكرة (التميز) في المجتمع السعودي، وهي الفكرة التي يرى البعض أنها سبّبت الكثير من المشكلات، وأعاقت حدوث نهضة حقيقية… كيف تردّ؟
هل (التميّز) تهمة؟ حسناً!! فليكن تميّز اليابانيين والكوريين والسويدين تهمة كذلك، ولكن لماذا لم يمنعهم تميّزهم عن تحقيق نهضة مادية حقيقة، مع أنهم يدرسون العلوم بلغاتهم، ويتحركون وفق خصائصهم الاجتماعية، ويسيرون وفق مصالحهم الخاصة بهم؟ أخشى أن الذين يعدون (التميز) سبباً في المشكلات والإعاقة لا يفهمون شروط النهضة، ولا يتمكنون من مماسة المناطق الساخنة المعيقة للنهضة، فيلجؤوا إلى الجدار الأقصر والأسهل0
 الخطاب الديني في المملكة كيف تراه الآن؟ وما رأيك حول الأسماء البارزة التي تتصدر هذا الخطاب حالياً؟
     تمر البلاد في حالة عدم توازن في عدة أنحاء بسبب الإلجاء والإقصاء والتسارع في المنعطف الجديد، وقد أثّر ذلك بطبيعة الحال على العلماء والدعاة، فظهرت حالة من عدم التوازن في مجمل الخطاب، فأيْدٍ تتشبث بأسس المشروعية ومنجزات من سبق، وأيْدٍ تحاول مسايرة التيار الأحادي، والاتجاه المتسارع في الركض، هذا في الجملة، أما في الآحاد فهناك من لزم الأمر الأول، وهناك من اتجه مع الأمر الثاني، وهناك من يحاول المواءمة، وهناك من يقفز، فمرة هنا ومرة هناك، وليست هذه الحالة بجديدة؛ فهي متكررة في كل الأحوال المشابهة؛ فقد حصل مثلها أمام المأمون والمعتصم والواثق، وأيام عصمت إينونو، وأيام ثورة الخميني، وأيام سطوة عبد الناصر، و كذلك هو الحال في معظم حالات الانعطافات الحادّة والسريعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
 هل تعتقد أن الإصلاح  الديني عندنا يحتاج لمارتن لوثر مسلم؟
هذه دعوة يردّدها من لا يفهم خصائص الإسلام ومقوماته ومنطلقاته، ومن التبس فكره بالحال الغربي تاريخاً وواقعاً، وقد سبق في حقبة الضجيج الاشتراكي واليساري من ادّعى أن الإصلاح  الديني عند المسلمين يحتاج إلى (ماوتسي تونغ  مسلم)، وستبقى هذه الدعوات الإلحاقية موجودة ما دامت هناك أدمغة مستعارة (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
الإصلاح  أمر كبير وشامل، وإذا كان ولابد من ذكر شخصيات نموذجية فيمكن القول بأن الإصلاح  الديني والدنيوي يحتاج إلى عمر بن عبد العزيز جديد، شخص يجمع بين العقل الذكيّ، والقلب الزكيّ (قوي أمين)، (حفيظ عليم).
 هل ثمة أمل في نهضة إسلامية قريبة؟
النهضة الإسلامية قادمة لا محالة، والتشكيك في ذلك تشكيك في وعد الله، أما وقتها فمرهون بحصول شروطها وانتفاء موانعها.
 العقدان الماضيان كانا مؤثرين بشكل كبير على السعودية والسعوديين.. كيف تقرأ ما تغيّر وما بقي على حاله؟ و أين الحسنات والسيئات في مجمل الحالة السعودية؟
      دوام الحال من المحال، والله سبحانه وتعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مردّ له وما لهم ممن دونه من وال، وما من إفك يُفترى تقوم بهم عصبة ضد الإسلام وأهله إلاّ وفي تضاعيفه ومآلاته خير(إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وهي حالة تتكرر كلما جاءت فتنة قولية أو عملية حيث تعرض الفتن على القلوب فتتشربها قلوب وتنكرها قلوب، وفي ذلك تمحيص وتميّز (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)، ومجرد حصول هذا التمييز فيه خير كثير وانكشاف لأحوال وأشخاص وقضايا وأمور كانت غامضة وملتبسة سيؤدي انكشافها إلى قوة للحق وأهله على المدى البعيد.
 التيار المتدين في المملكة هل يمكن أن نحصره في أنه يمثل تيار الصحوة الإسلامية فقط أم أنه يشمل آخرين لا يعترفون بالصحوة ولا ينتمون لها؟
      الصحوة مظهر من مظاهر الدعوة، وخط متقدم من خطوط التغيير الإيجابي في الأمة، ومن المعروف حربياً أن الخطوط الأمامية هي المستهدفة بالقصف أولاً، وكل من توفّرت فيه الشروط الأربعة المذكورة في سورة العصر فهو من المستحقين لهذا الوسام، حتى وإن كان لا يعلم ذلك، أو كانت لديه تحفّظات حول الاسم تأثراً بالشبهات وغبار القصف وفرقعاته المنطلقة من منصّات قطّاع الطريق إلى الله تعالى (يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض)، وقد أخبر الله بحالة قطّاع الطريق هؤلاء وحالة المتأثرين بهم فقال: (لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)، ومع كل ذلك فإن من مقتضيات الشرع والحكمة والمصلحة أن يكون الناس في اتجاه الإيمان والعمل الصالح، حتى ولو لم يقبلوا مصطلح الصحوة، ولا ينبغي فرز الناس بناءً على موقفهم من هذا الاسم، بل على المضمون والموقف العملي، وفي  الأسماء الشرعية التوقيفية ومضامينها ما يكفي ويشفي، والتديّن في بلادنا ليس تياراً بل هو خيار الأمة وقاموسها الأعظم؛ حيث تتسم الحالة عند العموم بالرضا  بالله رباً وإلهاً، وبالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاج حياة، وبالنبي -صلى الله عليه وسلم- نبياً وقدوة وقائداً لدولة الإسلام، وهذه هي الصحوة مضموناً، ومن خرج عن هذا فليس سوى الشذوذ الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، وكما أن معظم المواليد يولدون أسوياء في الخلقة، فإنه يوجد نسبة قليلة من المواليد المشوّهين والمعاقين، وتلك حكمة الله تعالى لإظهار نعمته على الأسوياء ليشكروا الله تعالى، ويقولوا حين يرون المبتلى الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به، وفضّلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً.
 الجماعات والتكوينات “الدينية” التي سادت في فترة ماضية في الأرض السعودية.. أين هي الآن تحديداً؟ وهل تذهب الأفكار والتيارات بلا رجعة؟ (مثال جماعة التبليغ.. مثال فقط).
أظن أن التيارات والجماعات والتكوينات الإسلامية أو العلمانية ستوجد وتقوى، بل المتوقع في ظل ما يحدث الآن أن توجد تيارات وجماعات إسلامية جديدة فوق الأرض أو تحت الأرض، سلمية او عنفية، إصلاحية أو تغييرية، فكرية أو أخلاقية، إلى غير ذلك من أنواع التشكّلات الممكنة؛ ذلك لأن الشعور بالمغالبة والإزاحة والإقصاء ومصادرة المنجزات سيولّد ردّات فعل مقابلة،؛ إذ لكل فعل ردة فعل مضادة له في الاتجاه ومكافئة له في القوة، وذلك ضمن قانون المدافعة، وكلّما تعاظم التحدي تعاظمت الاستجابة له، بغض النظر عن كيفية التشكلات ونوعية محتواها وطريقة أدائها (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
أضف إلى ذلك أن ثقافة العولمة اليوم تنادي بحق الناس في التجمع والتكتل وإقامة المؤسسات المدنية التي تقاوم تغوّل السلطات، وهذه الثقافة بدأت تنتشر والوعي بها يتّسع، والشباب المثقف أصبح لديهم تشرّب لمعانيها، وخاصة تلك الأعداد الهائلة من المبتعثين الذين يعيشون في بلدان تعتبر ثقافة التجمع والتكتل فيه من البديهيات، وسيقتنعون بذلك وينقلونه معهم، وستصبح التكوينات بأشكالها واتجاهاتها المختلفة حقيقة واقعة، كما حدث في بلدان أخرى.
 الصحوة الإسلامية الحالية وانتشار الإعلام الإسلامي والبنوك الإسلامية ورجال الأعمال الإسلاميين والمثقف الإسلامي… ما الذي أخرج كل هذا وساعد في انتشاره (نتكلم عن السعودية)؟
      ساعد في وجود ذلك عدة عوامل، أهمها رسوخ القناعة بالإسلام منهجاً لحياة سعيدة فاضلة مباركة، ووجود عاملين لخدمة الإسلام يحملون الهوية، ويسعون إلى ترسيخها من رسميين وغير رسميين، وهنا تأتي الدولة السعودية في أعلى القائمة بوصفها قامت أصلاً على الدين الإسلامي ووفق المنهج السلفي، ومما ساعد أيضاً وجود مضادين للإسلام وعلمائه ودعاته من غلاة (الدنيوية /العلمانية)، ومن دعاة التغريب وأرباب الشهوات والشبهات؛ إذ شكّل وجود هؤلاء نوعاً من المنافسة والتحدي، والإنسان بطبيعته ميال إلى التحدي والرد والتحفز للعمل إذا زوحم.
فإذا وُظّفت هذه الطاقة لطريق الخير آتت ثمراتها الخيّرة المباركة، وهو ما حصل إزاء المضادّة المذكورة، والذي أتوقعه أن المضادة الجديدة-مع شدة إيلامها للمصلحين والحادبين على الوطن- سيكون لها مجموعة من الآثار الإيجابية في تقوية الوجود الإسلامي النقي وانتشاره بشكل أكثف وأعمق ولو بعد حين.
 مع ذلك فإن المتابع يلاحظ أنه قبل عشرين أو ثلاثين عاماً كان الاتجاه الإسلامي هو الوجهة لغالبية الشباب السعودي، بيد أن الشباب المعاصر له خيارات أوسع.. فما نصيب الإسلاميين  من هؤلاء الشباب؟
لكل حقبة مؤثراتها وعوامل تكوّنها وللمتغيرات صدماتها واهتزازاتها، ثم بعد انكسار الموجة، وسكون الريح، وانقشاع الغيوم (ستعود إلى أوراقها الشجر)، وسيكتشف الشباب من خلال الخيارات الأوسع أيها أهدى سبيلاً، ولا شك بأن هناك ضحايا لكل زلزلة، وهناك تلفيات وخسائر، ولكن تبقى الحالة الإيمانية هي موئل ومرجع أهل الإيمان كما جاء في الحديث (مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيّته “الآخية هي: العود الذي يربط فيه الحبل الطويل للدابة” يجول ثم يرجع إلى آخيّته، وإن المؤمن ليسهو ثم يعود إلى الإيمان)، وبقدر حصول التساقط والانهزام والتذبذب من البعض نرى زيادة الوعي واتساع الأفق وتنوع الاهتمامات وقوة الاستمساك من الكثير من النابهين من الشباب، حتى لقد أصبح السؤال اليوم هو عن المذاهب والمصطلحات والأفكار والاتجاهات المطروحة في الساحة أكثر من ذي قبل، وحلّ الاهتمام بهذه النوازل محلّ الاهتمام بالفروع الفقهية والاعتقادية، مما يُعدّ علامة على نضج متوقع من الشباب المسلم الغيور على دينه والمهتم بمصلحة وطنه ومجتمعه، وهنا يمكن استثناء الشبان والشابات الهامشيين وغير المبالين من حقل التأثير؛ لأن أكثرهم يسير وفق عقلية القطيع، ويصدق فيهم وصف من قال: يجمعهم الدفّ وتفرقهم العصا، ولاشك أنهم ضحايا الإعلام والتعليم المتراجع في جودته، وللأسف أن معظم هؤلاء الشبان والشابات لا يدرون ولا يعلمون أنهم لا يدرون، وهم ثروة مهدرة في المدرجات وخلف القنوات، وفي ميادين اللهو والعبث والترفيه الفارغ، وقد يستسيغ البعض إبقاء هؤلاء الشباب في غفلاتهم ليريحوا ويرتاحوا، وهذا هدر خطير وتفريط بالمستقبل، ومع كل ذلك فهم مجال خصب لعمل الدعاة المخلصين لإيقاظهم من غفلتهم وتنبيههم من غفوتهم، ليكونوا أعضاء صالحين في وطنهم ولمجتمعهم.
 كتاب قرأته وترك أثراً كبيراً على فكرك وشخصيتك؟
      عديدة هي الكتب المؤثرة، ويأتي في طليعتها القرآن العظيم؛ فهو مورد يقيني، ومصدر ثوابتي، ثم كتب السنة وخاصة اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ثم تفسير السعدي، ومعارج القبول للحكمي، وزاد المعاد، و سير أعلام النبلاء، ومجموع فتاوى ابن تيمية، ودرء تعارض العقل والنقل، وأدب الطلب للشوكاني، وكتابا الاعتصام والموافقات للشاطبي، و في ظلال القرآن، ومبادئ الإسلام للمودودي، وماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي، وضوابط المعرفة للميداني، وسلسلة الراشد المنطلق والعوائق والرقائق والمسار، ومنهج التربية الإسلامية لمحمد قطب، وصفحات من صبر العلماء لأبي غدة
ثم تأتي جملة من الكتب المعاصرة التي أُعجبت ببعض جوانب فيها ومنها: كتب  المسيري وخاصة رحلتي الفكرية، ومن بلاط الشاة إلى سجون الثورة لإحسان نراغي، والخمور الفكرية لكوستلر، ورحلة نحو البداية لكولون ولسون، وقصة الإيمان لنديم الجسر، وحاطب ليل ضجر، ولسراة الليل هتف الصباح للتويجري، وقلب من بنقلان لسيف الإسلام، وغيرها كثير من الكتب التي أثارت الإعجاب، وإن لم يكن لها كبير تأثير على الشخصية.
 ما أحلامك المؤجلة؟
أن أكون كما قال ابن المبارك في أبياته للفضيل بن عياض (يا عابد الحرمين) فإن لم يتحقق ذلك، فانقطاع للخلوة والصلاة والذكر حتى يأتي الأجل والله راضٍ عني وأنا محب للقائه. نسأل الله حسن الخاتمة.
 بماذا أنت مهموم الآن؟
بإصلاح نفسي واستدراك نقصها، ثم بإصلاح أسرتي ومجتمعي وإعزاز أمتي، والإسهام في النهوض بها والارتقاء في سلم القوة والتمكين والمجد، وهذي أمان كبيرة، أسأل الله أن يثيبني عليها، وأن يعينني على تحقيقها، وإذا سلم لي إيماني فيا فوزي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى