الثقافة
مفهوم الثقافة
لم يستعمل الأوائل كلمة ثقافة بما تستعمل به اليوم, حيث أصبحت هذه الكلمة شائعة الاستعمال كثيرة التداول, متعددة الدلالات، واسعة الأرجاء.
وقد جاءت في بعض كتب التراث كالمعاجم اللغوية والكتب الأدبية, وهي تعني في أصلها إقامة ما اعوج, وإصابة ما يسمعه المرء على استواء, والظفر بالشيء والإمساك([1])به، ومدار كلامهم فيها على الإتقان والحذق, والفطنة المقتضية لسرعة أخذ العلم وفهمه, وتقويم المعوج من الأشياء. وأصل الكلمة في اللغة من ثقف يثقف، وثقفًا وثقافة: صار حاذقًا خفيفًا فطنًا… وأصل الثقف: الحذق في إدراك الشيء علمًا أو عملًا … يقال: ثقّف الرجل، أي: علّمه وهذّبه ولطفه([2]).
ولعل أول من استعمل كلمة ثقافة ببعض ما تدل عليه اليوم صاحب طبقات الشعراء سنة 232هـ، حين قال: (وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم والصناعات)([3])، وللجاحظ سنة 255هـ، استعمال بمعنى المهارة والإتقان فقال عن استعمال العصي في الأقوام: (ومنهم النبط ولهم بها ثقافة وشدة وغلبة، وأثقف ما تكون الأكراد إذا قاتلت بالعصى … ولهم هناك ثقافة ومنظر حسن…)([4]).
وتحدث مالك بن نبي في كتابه عن مشكلة الثقافة وكيف أن ابن خلدون لم يستعمل هذا اللفظ وإن كان تحدث عن أنواع العلوم, وأشار إلى أنها لم تستعمل في العصرين الأموي والعباسي بالطريقة التي تدل عليها اليوم([5]).
بيد أن استعمالها اليوم تشعب وتوسع بطريقة يكاد يصعب معها إيجاد تعريف جامع مانع لها, فهناك من يتحدث عن ثقافة الطعام واللباس واللعب والترفيه وعادات الشعوب وتقاليدها, كما يتحدث عن ثقافة العلم والفن, وثقافة التقنية والأمور التجريبية, وهناك من قرنها بالتاريخ فتحدث عن ثقافة اليونان والهند والصين, بل هناك من قرنها حتى بالممارسات العادية العارضة كثقافة قيادة المركبات وعبور الطرقات أوقرنها حتى بما انحط من تصرفات الناس كثقافة البغاء والتعري, وثقافة التدخين والمخدرات والجاسوسية, وغير ذلك من الأمور التي أصبحت تسمى ثقافة إما على سبيل الوصف والتصنيف أوعلى سبيل الدعاية والتطبيع، وكل ذلك مما يزيد في تسطيح المصطلح وتعويمه بحيث يصعب على الباحث الوقوف على حد منطقي دقيق, وخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه مناشط الإنسان وتنوعت أعماله وتعقدت ممارسته, وتداخلت فيه مقتضيات العصر مع أهوائه تداخلا قد يغيب حتى على بعض أولي النظر والفكر، وتحولت فيه المفاهيم والممارسات من اليسير إلى المركب, ومن الفردي إلى الجماعي, وتواصلت فيه الشعوب والمجتمعات, واتصلت فيه القضايا الحسية بالمعنوية, وطغت فيه لغة الإعلام المتفلتة على ضوابط المعرفة والفكر المتسمة – افتراضًا – بالدقة والموضوعية.
وهذا لا يقتصر على مفهوم الثقافة فقط، بل حتى على أمور أخرى كالحضارة والمدنية والنهضة, والفن والأدبوغير ذلك من الألفاظ التي أصابها التعويم الاصطلاحي لكثافة وتداخل مجموع العناصر وإشكالياتها واستعمالاتها.
وحتى المعاجم التي من المفترض أن تكون أكثر تحديدًا في ضبط التعريفات أصابها ما أصاب غيرها؛ إذ المفاهيم المعروضة في بعضها هي إما اقتباس وترجمة,أو تمدد في جوانب عديدة, وشرح لأمور مختصة، أضيف إليها لفظ ثقافة إضافة تصنيف وتخصيص مثل: ثقافة اجتماعية, ثقافة أساسية, ثقافة إنسانية, ثقافة تاريخية, ثقافة جماهيرية, ثقافة شعبية, ثقافة غير مادية, ثقافة مضادة, ثقافة هامشية, ثقافة تحررية, ثقافة جنسية, ثقافة إعلامية… إلى عشرات الأنواع من المسميات, التي قد تدل على تهلهل المفهوم وتمزق نسيجه, أو تدل على نموه واتساع دلالاته, حتى أخذ معاني مركبة واتجه اتجاهات عدة.
ولا تكاد تجد باحثًا أو معجمًا يتحدث عن الثقافة إلا وتعترضه إشكالية تحديد مفهوم الثقافة وخاصة في تداخلها مع مفهوم الحضارة، مما دعا مالك بن نبي إلى القول بأنه: (… لا سبيل لعودة الثقافة إلى وظيفتها الحضارية إلا بعد تنظيف الموضوع من الحشو أوالانحراف الذي أحدثه عدم فهمنا لمفهوم «ثقافة»)([6]).
ومن الصعوبة بمكان حصر ما قيل في مفهوم الثقافة, ولكن أشير إلى ذلك في نقاط,مجملها إما عائد إلى الأصل اللغوي, أو تعريفها بوصفها علمًا مفردًا, أو بوصفها علمًا مضافًا.
- من عرفها بأصلها اللغوي, في لغة العرب. وقد سبق ذكر ذلك
- من عرفها هي في ذاتها أي بوصفها علمًا مفردًا وهو ما سنختم به هذا المبحث.
- من عرفها مضافة أو مقترنة بالتقدم والمدنيةوالتحضر والعمران, وأكثر المفكرين الغربيين, عدا الألمان, لا يضعون حدًا فاصلًا بين الحضارة والثقافة وسنخص هذا بمبحث يلي هذا.
- من أضاف الثقافة إلى معرفة معينة,وهي بذلك تقتضي معرفة نظرية متخصصة, وممارسة عملية مطابقة, يقال مثلا الثقافة الأدبية, والثقافة العلمية, والثقافة الفنية… إلى غير ذلك من أنشطة إبداعية, وقد تتفرع إلى فروع متخصصة, فالثقافة الأدبية منها الثقافة النثرية والعروضية.
- من أضافها إلى نوعي العلم (المتواضع عليه غربيًا) فقال بأن الثقافة إما علمية وهي المبنية على التطور الصناعي, وما نتج عنه من ثورة في مختلف الحقول والميادين, وإما أدبية ويدخل فيها الأدب وسائر العلوم الإنسانية كالتاريخ والجغرافية وعلم الاجتماع والفلسفة.
- من أضافها إلى الفرد المعين, فجعلها ما يتصف به الرجل الحاذق المتعلم من ذوق وحس انتقادي وحكم صحيح, أو هي التربية التي أدت إلى اكتساب هذه الصفات, وما تلقاه الفرد عن الجماعة من مظاهر الفنون والعلوم والمعارف والفلسفة والعقائد وما إليها, وأضاف بعضهم إلى تثقيف العقل تثقيف البدن ومنها الثقافة الرياضية.
- من أضافها إلى المجتمع فجعلها حالة اجتماعية مشبعة بموروثات حضارية متراكمة عبر أجيال وقرون, وتشتمل على مجمل المنجزات العقلية في الأدب والفن والفكر والعلم, بما في ذلك الآداب الشعبية والفنون الفولكلورية على اختلافها, والعادات والتقاليد, والشعائر والطقوس, وغير ذلك من ممارسات حياتية سائدة في علاقات الناس وطرائق عيشهم وسعيهم, وهي بذلك تكون عبارة عن الطرق التي يوجدها أي مجتمع لسد حاجاته الأساسية وتنظيم علاقاته الاجتماعية, إضافة إلى مجموع العادات والأوضاع الاجتماعية والآثار الفكرية والأساليب الفنية والأدبية, والطرق العلمية والتقنية, وأنماط التفكير والإحساس, والقيم الذائعة في مجتمع معين, وباختصار هي طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعيًا لا بيولوجيًاوتكاد تكون إضافة الثقافة إلى المجتمع هي من نوع إضافتها إلى التقدم والحضارة والعمران, لولا ارتباط هذا المفهوم بالعلاقات الاجتماعية والموروثات بشكل أكبر.
- من أضافها إلى الملاءمة بين الإنسان والطبيعة, وبينه وبين المجتمع, وبينه وبين القيم الروحية والإنسانية, وبل خصها بعضهم بقوله: (وبعبارة واحدة الثقافة هي كل ما ينضاف إلى الطبيعة) ثم أضاف بما يوحي بالتناقص فقال: (والجدير بالملاحظة أن الثقافة قد أبعدت الإنسان عن الطبيعة لدرجة أن معظم سلوكه غدا سلوكًا ثقافيًا, فنومه لم يعد طبيعيًا, بل هو ينام في مكان معين وفي أو قات معينة وبثوب معين, والأكل لم يبق طبيعيًا … ولا الحمل والولادة …).
- من أضافها إلى العقل, فجعل الثقافة إنما تطلق على المزايا العقلية التي أكسبنا إياها العلم, حتى جعل أحكامنا صادقة وعواطفنا مهذبة, وأكد أن الأولىإطلاق الثقافة على التقدم العقلي وحده.
- من أضافها إلى السلوك, فجعل الثقافة هي المظهر الخارجي للسلوك المكتسب ولنتائجه, وأراد بالسلوك ذلك الذي يشترك في العناصر المؤلفة له أفراد مجتمع مّا ويتناقلونه, وبذلك السلوك تصبح الثقافة عبارة عن النمط الذي يعيش عليه مجتمع مّا, وبهذا المعنى أصبحت الثقافة هي مجموع السلوكيات المكتسبة التي ينقلها أفراد مجموعة مّا– تربط بينهم تقاليد مشتركة – إلى أبنائهم).
- من أضافها إلى الأجيال والعصور, وبذلك تنقسم إلى ماض وحاضر, ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر, وهي عنوان المجتمعات البشرية.
- من أضافها إلى الأمم وأنواع التلقي, وبذلك يقال: الثقافة اليونانية والثقافة العربية والثقافة اللاتينية والثقافة المدرسية الكلاسيكية والثقافة الحديثة, وامتزاج الثقافات, والنشاط الثقافي والعلاقات الثقافية, والمثاقفة, والتخلف الثقاف.
- من أضافها إلى النمو والانقراض, فوصف التعليم بحجارة في داخل كيس، أما الثقافة فكبذرة في وعاء, ومهما صغر الوعاء وصغرت البذرة فإنها تنبت وتنمو وتزهر, ولكن الثقافة تحتاج إلى إبداعٍلكي تنمو, فالثقافة التي يتم الدفاع عنها عوضًا عن إبداعها ثقافة قد ولت وانتهى أمرها, ولا تنقرض ثقافة من الثقافات إلا بمقتضى ضعفها الخاص([19]).
- من أضافها إلى أمور متقابلة, وهي إضافات تشبه أن تكون تقسيمًا للثقافة, يعطي مفهومًا معينًا للثقافة فمن ذلك:
([1]) انظر معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، 1/382، 383.
([2]) انظر: لسان العرب، 9/19 – 20، والمفردات للراغب، ص79،وكتاب: العين، للخليل بن أحمد،5/138، وتهذيب اللغة للأزهري، 9/81، وجمهرة اللغة، لابن دريد،ج1ص429، والمحكم، لابن سيده، 6/356, والمخصص له، 2/172 و3/196، وتاج العروس، للزبيدي، 23/61 – 64، والتوقيف على مهمات التعاريف، للمناوي، ص116.
([3]) طبقات فحول الشعراء، لابن سلاّم الجمحي،1/5.
([4]) البيان والتبيين للجاحظ 3/51.
([7]) انظر:الإسلام لعصرنا، لجعفر شيخ إدريس، ص135, وحوار الحضارات، د. فهد السنيدي، ص48، وقد أحال على كتاب الحضارة الإسلامية، لعلي الشحود، 1/82.
([8]) المعجم المفصل في اللغة والأدب، د. أميل يعقوب وزميله، 1/476.
([9]) انظر: المصدر السابق، 1/477، على أن تقسيم العلوم بهذه المثابة مما يتحفظ عليه لكونه يفصل لائكيابين العلوم, وهم بذلك يدخلون دين الإسلام في القسم الأدبي النظري الإنساني.
([10]) انظر: لمحات في الثقافة الإسلامية، لعمر عودة الخطيب، ص32, والمعجم الفلسفي، لجميل صليبا، 1/378.
([11]) انظر: المعجم المفصل، لأميل يعقوب وزميله، 1/476، والمعجم الفلسفي لصليبا، 1/378 – 379، ولمحات في الثقافة الإسلامية، للخطيب، ص32، وقد خصص مبحثًا بعنوان (الثقافة وقيم المجتمع، من ص35-37، ومعجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، 123, 125.
([12]) انظر المعجم الفلسفي، لصليبا 1/378.
([13]) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص123.
([14]) المعجم الفلسفي لصليبا، 1/378 – 379.
([15]) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، ص124 ناقلا ذلك عن رالف لنتن.
([16]) المصدر السابق، ص124، ناقلا ذلك عن مرغريت ميد.
([17]) انظر: المعجم الفلسفي لمجمع اللغة، ص58.
([18]) انظر: المعجم الفلسفي لصليبا، 1/379.
([19]) انظر: معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية ص125 – 126، ونسب الأقوال لشابلان وبول فاين ومالرو, وانظر: المعجم المفصل، لأميل بديع، 1/478.