العلاقات المبنية على مصالح ومنافع
تعتبر العلاقات الاجتماعية المستندة إلى المصالح المشتركة أكثر وأشهر من غيرها؛ لبروزها على سطح التعاملات، ولكونها من لوازم تبادل المنافع والشراكات السياسية والاقتصادية والتداخلات العسكرية وغيرها، وكثيرًا ما تندرج العلاقات المصلحية تحت مسمى (التعاون)( )، الذي يعني من وجهة نظر اجتماعية (سوسيولوجية): العمل معًا بصورة مشتركة، وضم الجهود من أجل غاية مشتركة, وتبادل المساعدة بطريقة عفوية أومنظمة، أوحتى مفروضة من قِبَل سلطة ما، أوبحكم الظروف, ويدخل تحت ذلك جملة من الأعمال والممارسات الاقتصادية المتبادلة, والمعونات, وحالات التبادل المشترك، والخدمات التي يتم تداولها بين المجتمعات والدول؛ لأجل نفع مشترك, سواء تساوت فيه درجة المنفعة بين الأطراف أواختلفت،وسواء استبعدت أية مقاصد للسيطرة أولم تستبعد, أعلنت تلك المقاصد أوأبقيت مضمرة غير معلنة، كما هو الأغلب.
وما من مجتمع إلا وهو في حاجة إلى هذا الضرب من العلاقات الاجتماعية المصلحية؛ لأنه لا بديل لذلك إلا العزلة الاجتماعيةأوالسياسية،والانفصال عن أسباب التطور والنماء والتعايش. وحالة العزلة الاجتماعية -مع افتراض إمكانية حصولها بشكل كامل -هي حالةابتعاد معنوي أوحسي عن علاقات التبادل الطبيعية بين البشر, على أن هذه العزلة قد تكون اختيارية وقد تفرض فرضًا, وأظهر مثال لذلك اليوم دولة كوريا الشمالية.
وفي المقابل تأتي الملاءمة الاجتماعيةالتي هي شكل من التكيف في تغيير أنماط العلاقات الاجتماعية لتحقيق مصالح أوتلافي توترات ومنازعات أوتخفيفها, ولتجنب حالات التجمد والانكفاء والتصلب السلبي.
إن الجوانب الإيجابية من العلاقات بين المجتمعات تنطوي على ثمرات كثيرة،وآثار عديدة في الحياة الاجتماعية والمعيشية، وخاصة للأمم والجماعات الضعيفة, وعلى الأخص الأمة الإسلامية، التي من المفترض أن تقوم بواجبها في هداية الحيارى وإرشاد التائهين، والقيام بالحق المناط بها وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ، وأداء ما يلزمها أداؤه لو وعت ذلك وعملت به،كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .
فإنها لو قامت بذلك في إطار ذاتها لأمكنها أن توصله إلى الآخرين, من خلال العلاقات الاجتماعية والتواصل الاجتماعي, ولأمكنها أن تبث روح الرحمة في العالم الذي تنهشهالقلاقل والحروب والفتن والأمراض النفسية والعلل الاجتماعية، والاستغلال والفساد والفتك بإنسانية الإنسان, روح الرحمة التي أرسل بها نبي المرحمة محمد :وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ( )ولكن أنَّى للأمة أن تقوم بهذا الواجب وهي لم تحققه في ذاتها؟!
كما أنه يمكن من خلال تلك العلاقات الاجتماعية الإيجابية الأخذ باصطفاء وتمييز ما لدى الآخرين من جوانب الخير التي يكاد لا يخلو منها مجتمع بشري, وإسالة مقتضيات العصر في أودية المجتمعات المسلمة الناضبة.
إن أمة الإسلام إن كانت ضعيفة في الجوانب التقنية والإنتاجية ، بسبب الجهل وممارسات بعض النخب المستلبة في الجوانب السياسية والاقتصادية, إلا أنها بالرغم من ذلك تملك قوة عظيمة في مبادئها وقيمها وتشريعاتها، من حيث هي في ذاتها, وبإمكان الشعوب المسلمة أن تقوم من خلال العلاقات الاجتماعية الممتدة والتواصل والتعايش مع المجتمعات الأخرى أن توصل إليها ما تفتقده فعلا، مما له علاقة بالجانب الروحي والأخلاقي, ومساعدتها في الخروج من القفص الحديدي الذي شيدته المادية القاحلة، وحبست الإنسان في داخله من خلال فلسفات ومفاهيم وممارسات جعلته أشبه ما يكون بالأشياء المادية المستعملة التي تنتهي بمجرد انتهاء صلاحيتها الاستعمالية.
هذه الإمكانية موجودة في الإسلام وكامنة فيه كمون الزيت في الزيتون، ولكنها تحتاج إلى من يتمثلها حقيقة ،ويقوم بها على الوجه الذي طلبه الله من هذه الأمة.
والذين مارسوا من المسلمين هذه القضية -على قلتهم بالنسبة للأمة- كان لهم أثر واضح في المدعوين من تلكم المجتمعات, حيث الضماء الشديد، والتوق الكبير لإعادة الإنسان إلى إنسانيته المتجاوزة حدود المادة واللذة، وحدود السجن المادي الذي لا يعطي القلب حقه ولا يروي الروح؛ فيفقد الإنسان حينئذ حقيقة الحس الإيماني والحس الأخلاقي والجمالي, بل ويحولها في حالة إحساسه بها أونزوعه إليها إلى ذلك الإطار المادي الجامد, أوإلى نوع من الحلولية الأشبه بالوثنية، وقد فعل التجار والرحالة الأوائل ما يقتضيه واجبهم الديني فدخلت أمم وجماعات في الإسلام، كما حصل في إفريقيا وشرق آسيا.
ومن هنا يمكن القول بأن العلاقات الاجتماعية الإيجابية المنفتحة، تحقق منافع مشتركة ويحصل بسببها مصالح كثيرة، لو استعملت على الوجه الصحيح.
غير أن هذه الصورة الإيجابية للعلاقات الاجتماعية ليست مضطردة ولا مستمرة, فهناك جوانب سلبية في المفاهيم والممارسات تعترض هذا المسلك، الذي قد يعده بعض الناس أقرب للمثالية منه إلى الواقعية.
من ذلك: تعارض المصالح وتضادها، الذي يفضي في العادة إلى التنازع، وقد يوصل إلى الصراع المسلح، حتى بين أصحاب الدين الواحد، أوالمبادئ المشتركة, كما حصل بين النصارى في أزمنة عديدة وحتى عصرنا الحاضر في الباسك وأيرلندا, وكما حصل بين المسلمين كذلك, وكما حصل بين الدول الأوروبية الاستعمارية, وكما حصل بين الاتحاد السوفيتي والصين.
وقد ينشأ التعارض بين المصالح بسبب طغيان القوة والاستغناء كَلا إن الإِنسَانَ لَيَطْغَى *أن رَّآهُ اسْتَغْنَى( )وذلك حينما يستشعر الإنسان قوته المالية أويرى قوته السياسية التي تقود إلى طغيان السلطة،اِذْهَبَ إِلَىَ فِرْعَوْنَ إِنّهُ طَغَىَ( ) ، وما أكثر ما أنتج طغيان السلطة من فساد في الأرض واستعلاءعلى الضعفاء، وقتل وتشريد وسجن بل وإبادة, فمن عهد عاد وثمود وفرعون، ومسيرة الطغيان مستمرة حتى عصرنا هذا،أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ* وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ*وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ* الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ( ).
لقد أراد فرعون إبادة موسى والشعب الذين معه؛ لأن طغيان القوة غلب على تفكيره، فأراد استئصالهم وهم شعب أعزل لم يقاوم, بل خرج يبحث عن مكان آمن يعيش فيه.