معارضة اللودية وما شابهها

الجهات المعارضة للودية تجمع أولئك الذين يؤمنون بالخير الذي يجنيه الإنسان من أي تقدم تقني وترى تنفيذ التقنيات الجديدة دون قيود, ولكن تلك الجهات تلاقي صعوبات عندما يكون موضع الجدال قضية محددة, خاصة وأن العديد من المروجين للفكرة لا يفهمون تلك التقنية المنتقدة بالتحديد؛ فالدعاية التسويقية تغلب على الشواهد العينية فيكونون بذلك ضحايا صدمة دعائية , قد لا يفيقون منها إلا عند انكسار حاجز الانبهار, كما هو حال فوكريا, مع قضية نهاية التاريخ وموقفه من المحافظين الجدد.
ويرى مروجو فكرة”التقنية بأي ثمن” أن ما يسعى اللوديون الجدد لإنقاذه سواء من أعمال للناس أو من بيئة أو حيوانات أشياء لا تستحق الإنقاذ؛ كما أنهم يأخذون عليهم أنهم مدفوعون بالعواطف دون التفكير المنطقي.
ولعل الاعتراض الأكبر من مروجي التقنية يتمثل في نبذ الثقافة اللودية التي توصف بالرجعية لإصرارها على الدفاع عن الثقافة التراثية؛ إذ يرى التقنيون أن الثقافة قوة جامدة تحد من قدرة الناس, وتسترقّهم بفرض قيود تشل تقدمهم, كما أنها تتعارض مع التكيف مما قد يؤدي إلى إبادة بعض الثقافات والإثنيات.
وفي المقابل نجد هناك مجموعات توصف بالمصدومة حضاريا لأنها تمارس (مناهضة الحداثة) وهم من المحذرين من خطورة تغلب التقنية على القيم وعلى إنسانية الإنسان، وقد يطلق عليهم مسمى (منتقدو التقنية).
وتقوم “نظرية انتقاد التقنية” (Critique of Technology) على أن في التقنية مجموعة آثار سلبية متزايدة في ظل التطور التقني المتقدم, وما يترتب على ذلك من تحوّل التقنية إلى آلية للسيطرة والتحكم في الإنسان والاستغلال للمجتمع؛ كما هو جلي في المجتمعات الصناعية المتقدمة سواء أكانت رأسمالية أو شيوعية أو اشتراكية( ). بل إن التقنية قد تتحول عموما إلى أداة تهدد البشرية بأسرها وبصورة أشمل.إن الموقف المتشائم من التقنيةقد يتحول إلى نظريةتتكامل مع نظرية انتقاد التقنية, والمواقف غير التفاؤلية المتنامية في أوروبا تجاه التقنية، والتي أصبحت طاغية منذ العقد السابع من القرن الماضي, حيث تمثلت في الحركات المناهضة للتقنية النووية؛ حيث أكدت أحداث تشرنوبيل (Chernobyl), عام 1986م وأحداث تسونامي في مفاعلات اليابان, أكدت لعيون النقاد استحالة التحكم في تقنية خطيرة كبير الحجم.ثم جاء الحماس لتقنية الإنترنت في العقد التاسع فوجه الموقف من التقنية إلى مواقف أكثر إيجابية، غير أن المخاوف من زيادة احتمالات تقدم تقنيات التجسس والمراقبة ما زالت في انتشار.
ومن أعلام الكتاب الذين توسعوا في نقد التقنية بنهج أوسع “جنثر أندرز”
(Gunther Anders), و”جاك إلول”, و”لويس ممفورد” (Lewis Mumford), و”مارتن هايدجر” (Martin Heidegger), وكذلك “دافيد نوبل” (David F. Noble), الذي كتب في التاريخ الناقد للتقنية, وتعتبر نظرية انتقاد التقنية صورة من صور نقد الحضارة الذي يرجع على الأقل إلى عصر “جان جاك روسو” (Jean-Jacques Rousseau)( ).
ولقد أصبح انتقاد التقنية في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقد السابع أساس نظرة سياسية جديدة يسميها بعضهم باسم”الفوضوية البدائية” التي وجهها العديد من المفكرين, مثل “فردي برلمان” (Fredy Perlman), و”جون زرزان” (Jhon Zerzan) و”جورج برادفورد” (George Bradford) “دافيد واطسون” (David Watson), وقد طرح بعض الماركسيين القدامى نظريات مختلفة يؤكدون فيها على أن المجتمع الصناعي وليست الرأسمالية هو جذر المشكلات الاجتماعية المعاصرة, ولقد نشأت هذه النظرية في مجلة “السلطة الخامسة”(Estate Fifth) في العقدين السابع والثامن وتأثرت “بجاك إلول” و “مدرسة فرانكفورت” (Frankfurt School)( )وآخرين.
و”مدرسة فرانكفورت” هي مدرسة نظرية الماركسية الجديدة الناقدة( ), والبحوث الاجتماعية؛ وقد انبثقت المجموعة من مؤسسة بحوث الاجتماع في جامعة فرانكفورت, بألمانيا عندما تولى إدارته “ماكس هوركهايمر” (Max Horkheimer), في 1930م. ولقد أصبح تعبير مدرسة فرانكفورت يستخدم أحيانا بطريقة ارتجالية للإشارة إلى المفكرين المرتبطين بالمؤسسة أو المتأثرين بهم.
وانتقاد التقنية يتداخل مع مجال الفلسفة التقنية وفلسفة الصدمات والأبحاث( ), المخصصة لدراسة طبيعة التقنية وآثارها الاجتماعية, غير أن فلسفة التقنية تتخذ طابعا أكاديميا مقارنة بنقد التقنية الذي له طابع سياسي إضافي.
و”الأنثوية البيئية” حركة اجتماعية سياسية تحاول التوحيد بين الدفاع عن البيئة والدفاع عن حقوق الأنثى ضمن فلسفة (التمركز حول الأنثى), مع معاصرين يربطون بين “البيئة العميقة” (Deep Ecology) وحركة “تحرير الأنثى” (Feminism)( )؛ حيث تمثّل “البيئة العميقة” عندهم لونا مستحدثا من فلسفة البيئة(Ecosophy), التي تعتبر أن الإنسانجزءٌ لا يتجزأمن بيئته. و”الأنثوية البيئية” تعتبر أن هناك علاقة بين ظلم المرأة وتدهور الطبيعة,وتحاول إيجاد علاقة بين التعصب الجنوسي والتسلط على الطبيعة والاضطهاد العنصري, والخواص الأخرى المتسمة بعدم المساواة الاجتماعية؛ وهناك بعض البحوث تؤكد أن النظم الرأسمالية ونظم الوصاية قائمة على الغلبة الثلاثية للعالم الثالث والمرأة والطبيعة( ).
كل ما سبق ذكره من التاريخ ومن الحاضر الغربي يؤكد أن انتقاد التنمية والتطوير مصوب إلى التقنية الحديثة والتصنيع والرأسمالية وعولمة الاقتصاد, وهذا الاتجاه الناجم عن الصدمة الحضارية؛ يعتبر حركة معادية للحضارة المادية الجافة بمجملها, فنقاد التطوير والتنمية يرون أن التحديث مضر للبشر والبيئة, وحركات نقد التطوير تمثل قاعدة عريضة من الانتقادات, وتتضمن الترغيب في التمسك بالتراث والدين والروحانيات والجماليات, ومجانبة العنف, والتحلي بفضائل الريفيين والبدو. ولما كانت السعادة هي المحور الأساسي لنقاد التطور؛ فإن هناك اعتقادا سائدا بأن المجتمعات الحديثة؛ رغم ما فيها من تعقيدات تحقيق الغايات, وبذلها كميات هائلة من أوقات العمل, إلا أنها لا تساعد الناس على الوصول إلى مستوى كاف من السعادة المتواصلة؛ أي أن من الصعب الشعور بالسعادة في المجتمع الحديث مقارنة بالمجتمعات البدائية.
وفي العادة يتناول نقاد التطور بعض المفاهيم المستخدمة في المجتمعات الحديثة مثل الفقر, والتصورات الأخرى المتعلقة بالأحوال المادية للدول أو المجتمع؛ مثل مؤشر التنمية البشرية (HDP) (Human Development Program), الذي وضعه برنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) (United Nations Development Program) وهو يجمع بين مقاييس العمر المتوقع والقدرة على القراءة والكتابة, والتعليم, ومجمل الناتج الوطني للفرد في دول العالم, والهدف منه هو ترتيب مستوى الدول بالنسبة لتنمية الفرد والتمييز بين الدول المتطورة والنامية والمختلفة؛ والناتج الوطني الاهمالي (Gross National Product)( ), وهو أحد مقاييس الدخل القومي والإنتاج القومي لاقتصاد بلد ما؛ وهو يُعرّف على أنه مجمل القيم السوقية لكل البضائع والخدمات في الدولة في فترة محددة؛ مثل السنة المالية.
يرى النقاد أن تلك المفاهيم تصور الحياة في المجتمعات البدائية أو البديلة بصورة بليدة وتخدع الناس في المجتمعات الحديثة, وفي الواقع أن المجتمعات الحديثة تستخدم معايير غير موضوعية للرفاهية العالمية, وتسيء الحكم على المجتمعات الأخرى بتلك المعايير؛ على سبيل المثال: العمر الطويل يعتبر غاية محمودة, كما أن هؤلاء النقاد يعتبرون أن محاولات تنمية المجتمعات غير النامية هي بصورتها الراهنة عبارة عن مصادر شقاء ومتاعب, وبهذا فهم يحبذون إيقاف كل مشاريع التنمية؛ بل إن بعضهم يرى أن كل “تطور” لها معان سلبية وأنها تمثل فكرة إمبريالية( ).
ومن يتأمل مواقف وكتابات المقاومين للتقنية يشعر كأنهم يقولون: هذه الأجهزة : بدأنا بتشغيلها وانتهت بتشغيلنا، و البادئ أظلم!
ولعل من أشهر نقاد الحضارية المادية وتقنياتها “غاندي”( ), الذي انتقد التقنية الحديثة والكثير من خواص الثقافة الغربية, وكغيره من نقاد التطور أوصى بإنتاج الطعام محليا للاستهلاك المحلي بدلا من التجارة, كما أن هناك العديد من المفكرين ينتقدون حركة العولمة المعاصرة. وغالبا ما يكون نقاد التطور من ذوي الميول اليسارية الذي يحبذون الديمقراطية على المستوى المحلي, والذين ينأون بأنفسهم عن أعمال العنف, مع وجود بعض الاستثناءات الملحوظة مثل “تدكازينسكي” الذي دعم الديمقراطية على المستوى المحلي, ولكنه لجأ إلى العنف الثوري ضد الدولة لتحقيق تلك الغاية, ورغم أن غالبية منتقدي التطور لديهم مشاعر إنسانية إلاأن بعضهم يحمّل البشر تبعات تحطيم البيئة.
وبعض المنظمات الدينية؛ مثل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية قاومت الحداثة المادية القاحلة من وقت إلى آخر, باتخاذها مواقف ناقدة للتطور, خاصة التقنية,أوالخصائص الأساسية الأخرى في المجتمعات المعاصرة( ). وفي الأوساط الأكاديمية الحديثة قام المروجون لما بعد التنمية ولما بعد الحضارة بنشر أفكار تتضمن نقدا للتطور؛ ومن بين أصحاب التخصصات الأكاديمية من ربط نقد التطور بدراسات التنمية وعلوم الإنسان( ).
وبعد هذا الاستعراض يمكن لنا أن نتصور مدى تأثير العامل الحضاري في جوانبه التقنية والإنتاجية في الصدمات والصدمات الحضارية, وان ذلك ليس حصرا على البلدان النامية ولا على أبنائها, وكثيراً ما يتندر المنبهرون بالغرب من مواقف حصلت في الشرق الإسلامي أمام التقنيات المعاصرة كالمطبعة وآلات البرقية والهاتف والراديو والتلفاز والقنوات الفضائية, ويستنتجون من ذلك نتائج منحازة إلى جانب الهجاء والإدانة بالجملة للمجتمعات والعلماء والمفكرين والعامة, في الوقت الذي يغفلون فيه عماحصل من مقاومة التقنية والحضارة المادية التي كانت في الغرب وما زالت موجودة, سواء اعتبرنا سببها الصدمة أو الموقف من القيم وإنسانية الإنسان, أو الموقف الاقتصادي أو الصحي أو البيئي.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى