مفاتيح السلطة
إن عالم السلطة يتحرك بآلية الغابة. ففيه الذين يعيشون بالصيد والقتل, وهناك أيضا أعداد هائلة من المخلوقات (كالضباع, ونسور الجيف) التي تعتاش من صيد الآخرين, وهذه الفئة الأخيرة, وهي الأنماط الأقل خيالا, غالبا ما تكون عاجزة عن القيام بالعمل الجوهري لخلق السلطة. غير أنها تعرف منذ وقت مبكر أنها إذا انتظرت وقتا كافيا فإنها تستطيع دائما أن تجد حيوانا آخر يقوم بالعمل نيابة عنها. فلا تكن ساذجا: ففي اللحظة نفسها التي تتعب فيها نفسك بالعمل في مشروع ما, هناك نسور جوارح تحوم فوقك محاولة أن تجد طريقة تعتاش فيها من عملك الخلاق, بل وتزدهر وتنتعش من تطفلها عليه. وليس من المفيد التذمر من ذلك أو إنهاك نفسك من الشعور بالمرارة. كما فعل تيسلا. وأفضل من ذلك أن تحمي نفسك وتشارك في اللعبة. وعند ترسيخ قاعدة لسلطتك, فلتصبح أنت نفسك من النسور الجوارح, ووفر على نفسك كثيرا من الوقت والجهد والطاقة)( )
أما كيفية التعامل مع الضعفاء فيعبر عنه بما هو واقع كثير من السياسات الغربية مع المسلمين خاصة فيقول:
(الرجل الضعيف على حافة الهاوية: إن الضعاف هم أفضل من يمكن التلاعب بهم للتحكم بخياراتهم …)( )
ولو ذهبنا نستقصي ما قيل عن فلسفة القوة لطال المقام, وحسبنا أن نشير في الختام إلى نوع من هذه الفلسفة تتمثل في قوة ناعمة في أغلب أحوالها وهي الذرائعية أو الوصولية أو ما يعرف بالبرغماتية.
لقد صاغ فلاسفة المذهب الذرائعي( )”البرجماتية” الفكرية الذرائعية النفعية, في أنها عبارة عن السعي لبلوغ غايات مستقبلية فردية أو اجتماعية أو سياسية, واختيار الوسائل للوصول إليها هي العلامة والمعيار على وجود الخصائص العقلية في ظاهرة ما.
على أن بين أعلام الفلسفة البرغماتية أوجه اختلاف تفصيلية داخل المذهب الذرائعي لا يعنينا هنا الخوض في تفصيلها.
بيد أن هذه النظرية النفعية أوصلت المجتمع الغربي إلى ممارسة السيطرة على الآخرين لتحقيق مصالحهم بالصراع والمغالبة, والاحتيال , والمراوغة, وهذا ما تجيزه البرجماتية ما دام يوصل إلى المصلحة, بل لقد جعلوا الأديان رابطة اجتماعية مصلحية, وكذلك سائر الروابط الاجتماعية مثل الأسرة والزواج والأبناء, وحتى المساعي الاجتماعية ذات الصبغة الإنسانية البحتة.
وعندهم أن الدين والأخلاق يجب أن تدرس على أنها واقع داخلي نفسي يتم تقييمهما على أساس نتائجها العملية, وليس على أساس مصدرها ومنبعها.
يقول أحد فلاسفة البرغماتية: (أنظروا في الآثار ذات البعد العلمي التي نظن أنه من الممكن أن ينتجها موضوع تصورنا, إن تصورنا لهذه الآثار هو كل تصورنا للموضوع)( )
وهذا يعني أن النية الداخلية تحدد الموضوع في ذات الإنسان قبل أن يتصوره في الخارج, ذلك أن الذريعة هي أساس المعرفة البرجماتي( ) .
ويرى بعض فلاسفتهم أن علم التربية يجب أن يخضع لمبدأ علمي ؛ لأن المطلوب هو تخريج أناس عمليين لا يهتمون بالفكر المجرد.
وبناء على الفلسفة البرغماتية فإن الغطرسة الغربية تغطي على أذهان وعقول الناس هناك, وتتمثل في وهم صارخ يطل من حياتهم وممارساتهم, ويتسلل إلى المستعبدين في الشرق فيملأ ما في نفوسهم من تفاهة وهزيمة وفراغ, مؤدي هذا الوهم “البرغماتي” أنه طالما أن الغرب قد ارتقى صناعيا وتقنيا وبنى وشيد المصانع ووصل إلى الأفلاك وحاز القوة, فذلك دليل على أن مساره الفكري والخلقي والاعتقادي صحيح وجيد, ولمن أراد أن يصل إلى الرقي والازدهار, فلا بد أن يسلك المسالك الفكرية والاجتماعية والاعتقادية التي سلكها الغرب.
ومنشأ هذه الخرافة أن العظمة العلمية تستتبع حتما أن يكون الإنسان كله قد ارتقى, فلا بد إذن أن تكون الأخلاق والعادات والتقاليد الموجودة في عصر الذرة ومجتمع التقنية, أفضل من مثيلاتها في العصور السابقة!!.
وما دام الإنسان في المجتمع الغربي لا يؤمن بإله ولا يتقيد بخُلُق, ويستبيح الفوضى الجنسية, وينكر القيم العليا, ولا يقرُّ بأسرة ولا يطيع أوامر والدين, ولا يتردد في استعمال أي وسيلة للوصول إلى منفعته ومصلحته, فلا بد إذن أن يكون هذا كله الحق؛ لأن هذا هو عصر العلم والنور والحقيقة!!.
وقد نسي الغارقون في هذه الخرافة أن المقياس الحقيقي لعظمة الإنسان ليس هو جهاز الحاسب الآلي ولا ارتياد الفضاء, ولا الأقمار الصناعية ولا الصاروخ, ولا القنبلة الذرية التي يدمر بها الحياة والأحياء, وإنما المقياس الحقيقي للحضارة والرقي خلفية هذا كله من عقيدة صحيحة وخلق قويم, وأثر هذا في مشاعره وعواطفه, وكيانه النفسي على وجه العموم, فإذا انطوى الإنسان والمجتمع على عقيدة صحيحة, وفكرة عن الإنسانية أوسع وأشمل وأعمق من الأفكار المادية, وفكرة عن الحياة أكبر وأرفع, فقد ارتقى حقا.
ولن يكون الغرب قط راقيا حتى يغير نظرته للأحياء والحياة والأشياء, ويقيم فلسفة على أساس غير البراغماتزمأو غير الغاية النفعية للأعمال.
وإنما ينكر الغرب المادي “البرجماتي” كل القيم العليا ويؤمن بالمادية النفعية, لأسباب عديدة منها: ظروف البيئة الأوروبية التي جعلت شعوبا مختلفة تزدحم على رقعة ضيقة من الأرض قليلة الخيرات فأصبح الصراع هو الغالب على طبائعهم, لا التعاون والحب, وصارت تسيطر على مشاعرهم تلك الواقعية المادية التي لا ترتفع عن محيط الأرض وعالم الضرورة, فهو إذن عيب اضطرتهم إليه ظروف معينة وليس مزية تُشتهى كما يتصور المغفلون.
وامتلاك التقنية والقوة لا يستلزم النفور من مقومات الإنسانية الحقة, ما دام قد أمكن عمليا أن يجتمع هذا وذاك حين كان العالم الإسلامي – وقت تمسكه بالإسلام – يمتلك القوة العملية والحربية والسياسية والاقتصادية, أضف إلى ذلك أن امتلاك القوة على الأسس المادية النفعية لم يجلب للإنسانية غير الخراب والدمار والظلم, فهو قائم على الصراع لا على الحب, وعلى أن الغلبة للأقوى لا لصاحب الحق, وعلى أن التسلط والقهر والظلم والعدوان لا ضير فيها ما دامت تصدر من دولة عظمى( ) .
ومن مجموع هذه المذاهب والفلسفات, والآراء الفكرية, تكونت الحياة الاجتماعية الغربية, حياة تقوم على نبذ الدين والخلق, وأصبحت الديانة فيه للمادة والجنس والشهوة والغلبة, وأضحى الترابط الاجتماعي قائما على الروابط النفعية, والصلات المصلحية.
لقد اجتمعوا في سفينة مخروقة يقودها بحارون معتوهون, مجتمع يعيش الإفلاس والحيرة والضياع والتمزق والأمراض العصبية والعاهات النفسية.
يقول رينيةدوبو: (ووصف الإنسان بأنه “آلية من الذرات ليس إلا” لا يؤدي تفسيرا كاملا لطبيعته, والأسباب التي يتبعها الباحث في هذا الموضوع تحدد نوع الملاحظات التي يستطيع القيام بها, فإذا اختار العالم دراسة الإنسان بالطرق الفيزيائية – الكيماوية, فمن الطبيعي أن يكتشفوا فقط المحددات الفيزيائية والكيماوية في حياته, وأن يجدوا أن جسمه هو آلية من الذرات, إلا أنهم بذلك يهملون الخصائص الإنسانية التي لها, على الأقل, نفس القدر من الأهمية … والتعريف الميكانيكي لحياة الإنسان يخطئ الهدف؛ لأن ما هو إنساني في الإنسان هو نفسه بالتحديد “غير ميكانيكي”)( ) .
ويقول: (منذ قرنين تقريبا والإنسان الغربي يعتقد أن خلاصه سيأتي عن طريق الاكتشافات التكنولوجية, ولا جدال في أن المكتشفات التكنولوجية زادت من غناه المادي, وحسنت صحته العضوية, إلا أنها لم تجلب له بالضرورة الغنى والصحة اللذين يولدان السعادة)( ) .
ويقول: (من أسوأ نتائج الحياة العصرية بالنسبة لمخطط “التحضر” الأمريكي “كيستوفر الكسندر” “عارض الاعتزال والاستقلال الذاتي” , يقول “الكسندر” : (إن أكثر الناس يستعملون بيوتهم للهروب من ضغوط العالم الخارجي ويمارسون العزلة الاجتماعية كشكل من أشكال وقاية الذات, وفي النهاية يصبح الانسحاب والاعتزال عادة, ويصل الناس لنقطة لا يستطيعون معها – بل ولا يريدون – السماح للآخرين بولوج عالمهم الذاتي الخاص بهم)( ) .
ويقول: (تعب الكثير من الناس من هذا السباق المجنون للتغيير الدائم, وأنهك هذا الصراع البالغين, وأما المراهقون فلقد أصبحوا لا يجدون فيه أية قيمة تذكر, وعندما يشاهد هؤلاء جميعا تعقيد الحياة المدوخ, والجهود المهووسة لاختراع تكنولوجيات جديدة لتحل مشاكل خلقتها( )التكنولوجيانفسها, يعلو صراخهم: قفوا هذا العالم. فنحن نريد أن نخرج منه)( ).
ويقول: (العلاقات المتبادلة بين بني البشر هي , بالطبع, من أهم العوامل التي يأخذها المخططون بعين الاعتبار, ولكن لا يعرف في هذا المجال إلا القليل من احتياجات الإنسان الحقيقية, وكثير من علماء الأنثروبولوجياوعلماء الاجتماع ينظرون بحزن وتشاؤم إلى آثار الشروط المحيطية العصرية على العلاقات الإنسانية, ولا يجدون كبير أمل في قدرة الوضع الحاضر على توفير الحاجات الأساسية لقيام صلات ودية حميمة بين أفراد قلائل كما يحصل فقط في المجموعات البدائية الصغيرة( ), ” وفي المجتمع القديم كان الإنسان مرتبطا بالإنسان, أما في التجمعات الحديثة – ولا يمكن تسمية هذه التجمعات مجتمعاً– فيعيش الإنسان وحيداً, وكل شواهد الطب النفساني تشير إلى أن عضوية الإنسان في جماعة أو مجتمع تقويه وتمكنه من الإبقاء على توازنه أمام الصدمات العادية في الحياة, وتساعده على تربية أولاد يكونون بدورهم سعداء مرنين, وهكذا تظهر الحلقة المفرغة, وفقدان الانتماء للجماعة في جيل ما قد يجعل الناس في الجيل القادم أقل قدرة على الاندماج في عضوية الجماعة والمدنية, وهي في أساسها محطمة لحياة الجماعات الصغيرة, تترك الرجال والنساء تعساء يشعرون بالوحدة)( ) .
ويقول واصفاً الحياة الأمريكية والأوروبية: (في أيامنا هذه يهتم “المجتمع العظيم” ! على ما يظهر بخلق طبقة متوسطة ومدنية مادية مكسوة بالمظاهر التافهة)( ) .
ويقول أيضا: (كل المجتمعات المتأثرة بمدنية الغرب تتبع “توراة التنمية” كعقيدة وتدور في دائرة تشبه حلقات ذكر الدراويش “وتقول هذه التوراة:” أنتجوا أكبر لكي تستهلكوا أكبر ثم لكي تنتجوا أكثر” ولا يحتاج الإنسان لكي يكون عالم اجتماع حتى يدرك ان هذه هي فلسفة مريضة مجنونة …)( ).
ثم يضيف: (وأنا أشك أن في استطاعة البشرية تحمل أسلوب حياتنا السخيف لمدة أطول دون أن تفقد أفضل ما في الإنسانية, وعلى الرجل الغربي أن يختار مجتمعا جديدا, وإلا فإن المجتمع الحديث سيفنيه وهذا يعني في الواقع أن علينا تغيير بيئتنا التكنولوجية وإلا فهي ستغيرنا)( )
ثم ينقل كلام بعض علماء التقنية الغربيين القائلين بأن: (هناك عناصر في الموقف الحاضر يمكن إيجاد أجوبة لها في التكنولوجيا, ولكن هناك عناصر أخرى لا يمكن للتكنولوجيا أن تجيب عليها وهي تتعلق إلى حد ما بموضوع نظرتنا الفلسفية الأساسية بالنسبة للإنسان وما يعني تطبيقها)( ).
ويقول: (أصبحت المدن العصرية, وبخاصة الحواضر الأمريكية الضخمة كابوساً مزعجاً؛ لأنها تفشل باطراد في توفير محيط مرضٍ للحاجات غير المتغيرة في طبيعة الإنسان البيولوجية ولتطوره الثقافي)( ) .
يقول كولن ولسن في “سقوط الحضارة”: (وكنت كلما تغلغلت في دراسة اللامنتمي شعرت بأنه ليس عرضًا من أعراض هذا العصر, فأما من حيث الجوهر فهو عاصي, وأما سبب عصيانه فهو انعدام الجانب الروحي في حضارتنا الغنية مادياً)( ) .
(… ولم يكن أمراً شديد الأهمية أن استنتج أن اللامنتمي هو عرض من أعراض تدهور الحضارة؛ لأن اللامنتمين يظهرون كالبثور على جلد الحضارة, ويميل الإنسان إلى أن يكون على طبيعة محيطه, فإذا كانت الحضارة مريضة روحيا فإن الفرد يعاني من المرض ذاته)( ) .
ويذكر مؤلف كتاب “نهاية عمالقة في حضارة الغرب” تحت عنوان: نهاية عمالقة أو عمالقة النهاية, قائلاً: (إلى أي حد يجسد من اخترناهم من العمالقة أزمة لهذه الحضارة في سيرتها؟ وهل هي أزمة عابرة وطارئة تنصب على وظائف الحضارة, وتتجاوز بتصحيحها كما يتصور ذلك مرجو التفاؤل, أم أنها أزمة عضوية تنذر بالتفكك والانهيار كما يذهب إلى ذلك دعاة التشاؤم ومقرروه؟ ففي نظر هؤلاء المتشائمين: الحضارة استلبت لإشباع شهوة الاستهلاك, متمردة على كل ما يوقف أو يحد من هذا المد سواء في ذلك الإطار القيمي أو الروحي, بل وفي بعض المناحي الإنسانية, فالعد النازل قد بدأ لحضارة الأشياء بعد أن تنكرت للإنسانية وباسم الإنسان فاختنقت ذاتيا, لا نتيجة لقوة أعدائها وخصومها أو من يتطلعون بميراثها, ولا مصداقية لنبوءات “كارل ماركس” الخاصة بالتدمير الذاتي للرأسمالية, فالتدمير حاليا لا يرى على مستوى شق معين من هذه الحضارة الغربية, وإنما على مستوى شقيها الليبرالي والماركسي, فالأم واحدة وإن اختلفت المبررات, والوسائل والركيزة الثلاثية التي يعتمد عليها كل شطر توجد بالضرورة لدى الشطر الآخر, وتعني بذلك المعرفة التكنولوجية الأسس العلمية, التطبيق الصناعي, وما يُملياه من برمجة وعقلنه على مستوى الإنتاج والتبادل والاستهلاك … الأزمة أعم وأعمق نتيجة لتعدد العوامل المهيأة لها, بل بخصوصيات هذه الحضارة في حد ذاتها باعتبارها حضارة ركزت على الوعاء والقالب للإنسان كجسد, إشباعا ورفاهية ورخاء, وتلذذا بالمقتنيات التي استلب بها في النهاية, ونسيت أو تناست, جهلت أو تجاهلت, الأبعاد الأخرى للإنسان وفي الصدارة إنسانية الإنسان.
فـ “مركيز”( ) أحد فلاسفة العصر حينما ركز على الإنسان ذي البعد الواحد لهذه الحضارة, لم يكن بعيدا عن هذا المنظور, ودعوته إلى مواجهة حضارة التدمير وتجاوزها, وما عاصر ذلك من أحداث في نهاية الستينيات, متمركزة أساسا في أواسط الشباب في فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها, مما جعل هذا الفيلسوف يتصدر من بين المبشرين بأفول حضارة الغرب)( ).
وحقيقة الأمر أن واقع المجتمعات اللادينية في الأرض مما تعجز العبارات عن تصوير فظائعه وانحداراته وجرائمه وأهواله وأزماته, والتي يزيد من خطورتها وفظاعتها أنهم يسعون في نشرها في العالم, ويسعى المصدومون المقلدون في استجلاب هذه الشرور إلى مجتمعاتهم وينادون بهدم الدين وتحطيم الأخلاق وتفكيك المجتمع, والتمرد على الأب والأسرة, محاكاة للغربيين الذين نادوا في أول عهد ما يسمى “النهضة الحديثة” بهذه الأمور, آملين أن يجدوا منبعا آخر للأخلاق والروابط الاجتماعية غير الدين.
وهكذا أزاحت العلمانية اللادينية ميثاق الحياة حين أزاحت الدين عن الحياة, ومع إقصاء الدين أقصيت قيمة ومنزلةالأخلاق؛لأنها أصلاً مستمدة من الدين.