دورات التاريخ والتطلّع إلى بعيد

الواقع الراهن وليد أحداث تاريخية مضت،وخاصة تلك التي واكبت ضعف الدولة العثمانية ثم سقوط ولاياتها المترامية بين أنياب روسيا وبريطانيا وفرنسا،التي كانت تتصارع فيما بينها أوتتحالف وخاصة في الفترة من 1914-1920 وما واكب ذلك وماتلاه من تقاسم لميراث تلك الدولة وتوزيع البلدان توزيعا استعماريا رسم حدودا بين الدول والأقاليم ورسمت فيه خارطة ما أصبح يعرف بالشرق الأوسط،في خضم تلك الأحداث ودواماتها نشأت حركات مقاومة وحركات تبعية وظهر أحرار يحلمون بالحرية كما ظهر عملاء ينفذون ما يمليه المتغلب الغربي،ودارت معارك طاحنة بين هؤلاء وهؤلاء،وسكبت دماء ودموع وكتبت مؤلفات وأشعار،وتلاعب الساسة بالمصطلحات والأخيلة فغدا الاحتلال مجرد انتداب،والحاكم الغربي مندوبا ساميا،والمقاومون مخربين أو بمصطلح اليوم ارهابيين..وطحنت الأحداث برحاها الكثير ،واستمرت حركة التاريخ تمشي بطيئة أو عجلى حتى سقطت قوى وقامت أخرى،واندثرت أمور ونبت على أطلالها غيرها،إلى أن جاء ما يعرف بعصر الاستقلال،و معه غرس اليهود وظهور النفط و والعلمانية والاشتراكية ورسوخ ما يسمى بالمنظمات الدولية،ثم عصر البوارج والطائرات العابرة،وثم عصر الاتصالات والعولمة،فماذا تغير؟
تغيرت كثير من الأمور الإجرائية التي مارسها الانتداب او الاستعمار الصريح لتحل مكانها إجراءات جديدة تناسب الإمكانات الموجودة،ولكن الذي لم يتغير هو إصرار الغرب على البقاء- مستترا أو ظاهرا- يقود الأحداث أو يوجهها أو يستفيد من حصولها،ولم يتغير كذلك توق كثير من الناس ورغبتهم في الكرامة والحرية،ووقوف آخرين ضد هذا التوق،ولم تتغير أيضا حركة الزمان في استدارته البطيئة التي لا تلتفت لمستعجل يلهث ولا لمسترخ يترقب ،لتصل بعد ذلك إلى أمد لايبقى فيه القوي المتسلط قويا ولا الضعيف المهتضم ضعيفا،ولاتسطر فيه أقلام الظلم أو التبعية ما يمليه الظالم ،وحينها تأخذ حركة الزمان-بأمر الله-دورة جديدة تشبه الإنقلاب بين الفصول،و هو في حقيقته إنقلاب بين دورات التاريخ،لنشوء أمم وهلاك أمم،ونهوض حضارات واندراس أخرى،وهذه الدورات التاريخية الطويلة لا تحدث فجأة ولاتحصل صدفة،ولكنها محكومة بأسباب وموثقة بنواميس..وكما تكون البصيرة ضرورية في معرفة هذه الأسباب والاستفادة منها،فإن الرؤية البعيدة لصيرورة الأحداث ومآلاتها لاتقل ضرورة،إن لم تكن شرطا مسبقا للخروج من مضيق الأزمات والمحن،إلى رحابة التمكن والبناء والنهضة..والعبء كبير على الرواد أن يرصفوا هذا الطريق الصعب الطويل ويرسموا مساره،و يوضحوا معالمه،ويستنهضوا الهمم،ويشحذوا العزائم،بحكمة من يدرك أن بعد خريف الأحداث -مهما طال- ربيع مزهر مشرق ريان،وأن دوام الحال من المحال،وأن ما يزرع اليوم من بذور العزة وشتلات الكرامة سوف تجنيه الأجيال اللاحقة بعون الله وتوفيقه.