منهج الانصاف مع الموالف والمخالف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فالمنهج الحق قائم على العدل والإنصاف مع الموافق والمخالف، قال الله تعالى:
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وقد قرأت مقال الأخ الأستاذ خضربن سند(في شأن د/ محمد عبده يماني رحمه الله) وهو مقال جيد فيه عدل وإنصاف وقد أشار إلى المآخذ وذكر المناقب،فأرسلته، وكتبت في صفحتي عدة تعليقات عن وفاة هذا الوجيه وموقفه من إغلاق حلقات تعليم القرآن، فراسلني بعض الناس ينتقدون مقال الأستاذ خضر وكتب بعضهم معلقا في صفحتي،وقد بلغ الغلو ببعضهم أن وصف الرجل بأنه ضال مضل وأنه لم يذهب للأمير إلا دفاعا عن طريقته ومذهبه،ونحوا من هذه الأقوال المتجانفة،والاطلاقات الواجفة، والتي هي لهدي السلف مخالفة.
ومن اطلع على تراجم العلماء -علماء المبتدعة- في كتب الذهبي والمزّي وابن كثير(مثلا) رأى كم في طياتها من استمساك بالحق ونصح للخلق وصدق في الأوصاف للمخالف والموالف، ويكفي من أراد الانصاف أن ينظر في ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي،وأما من ركب مركب الاعتساف فلن يكفيه شيء ولن يكفه عن غلوه كاف!!
وفي كتب العلماء الراسخين نجد الكثير من شواهد هذه الميزة الكبيرة (ميزة العدل والإنصاف) و(ذكر المآخذ والمحاسن)، و(الترحم على كل مسلم)،
ولعل من أهم الأسباب التي جعلت بعض الناس يكره المنهج السلفي (وهو الحق الذي نؤمن به) هو مثل هذه المقالات المتحاملة التي وصفت الرجل الراحل بأنه ضال مضل! وجعلت ذهابه إلى الأمير إنما هي لنشر بدعه في شرق وجنوب جدة.
والذين عرفوه من المشائخ وطلاب العلم وعرفوا جهوده يثنون عليه كثيرا (وإن كانوا لا يقرّونه على أخطائه)، كما لا يقرون غيره وإن كان أقرب الناس إليهم
وها هو قد بذل نفسه للدفاع عن حلقات التحفيظ. أما ادعاء أن وراء الأكمه ما وراءها فهو من الظن الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم (الظن أكذب الحديث).
والذين لهم علاقة بجماعة تحفيظ القرآن بجدة ومكة (من أساتذة الشريعة والعقيدة) يعرفون التفاصيل ولم يذكر أحد منهم ما جاء في التهمة المذكورة عن شرق وجنوب جدة.
فلنتق الله في الناس وفي المنهج الذي نحمله، وقد قال الله عن الكفار وهم كفار(ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك..) وقال صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقد رأى عتبه بن ربيعة على جمل له أحمر:
(إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا) – البداية والنهاية 3/ 328-،
ولما استقبله صلى الله عليه وسلم الأنصار يهنئونه بالنصر في بدر قال أحد شباب الأنصار:
(ما الذي تهنئوننا به والله إن لقينا إلا عجائز كالبدن المعقلة فنحرناها) فقال النبي صالى الله عليه وسلم:
(أي ابن أخي أولئك الملأ)،قال ابن هشام(يعني الأشراف والرؤساء)
-البداية والنهاية 3/ 372- وهكذا كان دأب المسلمين أصحاب المنهج الصحيح في التعامل مع القريب والبعيد، يقول ابن القيم رحمه الله:
(والله تعالى يحب الإنصاف بل هو أفضل حلية تحلى بها الرجل خصوصا من نصّب نفسه حكما بين الأقوال والمذاهب، وقد قال الله تعالى “وأمرت لأعدل بينكم”، فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه بل يكون الحق مطلوبه يسير بسيره وينزل بنزوله، ويدين بدين العدل والإنصاف)- إعلام الموقعين 3/ 94- وله رحمه الله باب كامل في فضائل الإنصاف في زاد المعاد من أنفس ما كُتب.
وكذلك منزلة الفتوة في مدارج السالكين، ففيها كلام لا يكاد يوجد في غيره ثم إنه ما من إنسان إلاَّ وفيه عيب ونقص:
قال ابن تيمية في الفتاوى 19/ 191: (وكثير من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة إمَّا لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإمَّا لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإمَّا لرأي رأوه وفي المسألة نصوص لم تبلغهم، وإذا اتقى الإنسان ربه ما استطاع دخل في قوله: {ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وفي الصحيح أن الله قال: (قد فعلت)].
وقال سعيد بن المسيب: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلاَّ وفيه عيب ولكن من الناس من لاينبغي أن تذكر عيوبه، فمن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله.
وقال ابن الأثير: (وإنَّما السيد من عدت سقطاته وأخذت غلطاته فهي الدنيا لايكمل بها شيء وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: حق على الله أن لايرفع شيئاً من الدنيا إلاَّ وضعه).
وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: (من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثيراً ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لايحتمل لغيره ويعفى عنه ما لايعفى عن غيره، فإن المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث بخلاف الماء القليل فإنه لايحتمل أدنى خبث).
وقال ابن تيمية في الدرء 2/ 101 بعد أن ذكر الباقلاني والغزالي وأبو ذر المتكلم وابن العربي وأبو المعالي الجويني: (ثُمَّ إنه ما من هؤلاء إلاَّ من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لايخفى على من عرف أحوالهم… وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه(يقصد علم الكلام والرد على المعتزلة بالمنطق) فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنه من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل وخير الأمور أوساطها.
وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين والله تعالى يتقبل من جمع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات {ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا} ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة ا لرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}. أو كما قال رحمه الله
نسأل الله أن يشرح صدورنا ويهدينا، ونسأله أن يرزقنا كلمة الحق في الغضب والرضا كما كان يدعو بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.